ناسك في پاريس
نادراً ما تُصادفُ كتاباً مُنفتحاً على نصوص لا يجمعها نوع أدبي واحد، بل تتناثر على مساحته موادُ متفرقة من اليوميات إلى المذكرات والحوارات والشهادات، فتتجاور الفنون والأنواع الأدبية في فضاء مشهجر. وهذا ما يتميز به «ناسك في باريس» (دار أثر)، بحيث يضم الكتاب آثاراً أدبية متنوعة للمحرر والروائي الإيطالي إيتالوكالڤينو. وهذا ما يعين القارئ على فهم عالم صاحب «مدن لامرئية» وآرائه حول مفهوم الإبداع الأدبي، إضافة إلى إنغماسه في الكتابة الإبداعية. من الواضح أنَّ كالفينوكان منظراً لفن القص، وله إجتهادات على هذا الصعيد. أكثر من ذلك تتبين من خلال هذه النصوص ما تتصف به شخصية المحرر وتجاربه في مراحل مفصلية في تاريخ بلده إيطاليا وخصوصياته الأُسرية. كما يحكي تفاصيل إنضمامه إلى الحزب الشيوعي الإيطالي ومن ثُمَّ إنسلاخه من إلتزامات حزبية، إثر أحداث براغ وتدخلات الجيش السوفيتي وإبانة تبعية الشيوعيين الإيطاليين وعدم إستقلاليتهم. هذا فضلاً عما يلتقطه القارئ حول علاقة إستثنائية بين إيتالوكالفينووبعض المدن منها تورين التي راقتْ له مناهضة مُثقفيها ضد النازية ورفضهم للمُساومة. وزاد إرتباط المحررِ بهذه المدينة وثوقاً عندما يجد فيها مُفهمه تشيرازي بافيزى الذي يُقدم كالفينوإلى الصحافة ويتابعُ جميع ما يخطهُ، لذا يعتقدُ إبنُ سان ريموبأنَّ ما تفهمهُ من تورين يعادلُ ما راكمهُ من مُصاحبته لبافيزي. ويرى كالفينوحتى تورين تتوفر على العنصر الذي يوفر مناخاً حافزاً على الكتابة وهوحتى الماضي والمستقبل يكتسبان أهمية أكبر من الحاضر.
عن باريس، يقولُ إيتالوكالفينوإنَّ هذه المدينة قبل أندريه بيتون قد ضمت جميع شيء وصارت مكاناً خصباً لولادة السوريالية. وفي هذا السياق، يبدي كالفينوإعجابه بمدينة نيويورك ويجدُ فيها صورة المكان البسيط أوالمواصفات التي يجب ان تكون عليها المدن. ويأتي رأيه بخلاف رأي أدونيس الذي يقول إنّ «نيويورك حضارة بأربع أرجل، جميع جهة قتلٌ، وطريقٌ إلى القتل، وفي المسافات أنين الغرقى»...
يذكر كالفينوفي يومياته، التي دوّنها أثناء رحلته الإستكشافية إلى أميركا، إنطباعاته حول طبيعة جميع ولاية وأجوائها الاجتماعية. يبدأ إيتالوكالفينوهذه الرحلة في ثلاثة نوفمبر 1959، ويصادفُ وجود كتاب آخرين برفقته وهم من جنسيات فرنسية واسبانية وإنكليزية. ويشيرُ إلى حتى غونترغراس لم يتمكن من دخول أميركا لأنَّه لم يجتز الفحص الطبي. وتُطالعك بعد مقدمة إيستر كالفينووحوار مع زوجها، يوميات المحررُ في الولايات المتحدة الأميركية، التي قسمها على وحداتٍ معنونة بإسم المدينة أومنطقة مشهورة مع ذكر التواريخ. وكأنه يطبّق هنا قاعدة فيليب لوجون الذي يقولُ «ضع التاريخ وقُلْ ما تشاء».
هذا بالإضافة إلى ما تختصُ به اللغةُ من الوضوح والتعبير عما يشعرُ به المتجولُ بين الولايات. وكما أسلفنا الذكر، فإن نيوريوك تلفتُ إنتباه كالفينوأكثر من مدينة أخرى ويزورُ مرافقها الإقتصادية والثقافية ويبلغ إعجاب المحرر بعاصمة المال إلى درجة يقول فيها: «ستفكر في جميع شيء فور وصولك إلى نيوريوك ما عدا العودة إلى ديارك». ويلاحظُ إيتالوكالفينوتجذّر حب المال لدى الأميركيين بحيثُ يتسقط بأنَّه إذا نشأ جيل حديث في المستقبل يتخلى عن عبادة المال ستتلاشى الولايات المتحدة. تزامنت زيارة كالفينوإلى أميركا مع حملة الإنتخابات الرئاسية، لذلك فمن الطبيعي حتى يهتمَ بآراء متداولة في شأن فرص فوز هذا المرشح أوذاك حيثُ يتوقف عند الإحتمال الأرجح بتتويج المرشح الديموقراطي جون كندي رئيساً للولايات المتحدة. هكذا يراقبُ مؤلف «طريق إلى بيوت العناكب» نمط حياة الأميركيين على مستويات إجتماعية وثقافية وسياسية وفنية، لافتاً إلى أنَّ سبعين في المئة من دور النشر أصحابها من اليهود وكذلك في المسرح.
والتفت كالفينوالى حماسة الأميركيين لبناء منازلهم وهجريب السلالم ودهن الجدران والقيام بأعمال النجارة بسبب عدم وجود أجرة العمل لهذه الوظائف. ويشير إلى طبيعة مجتمع الهنود في أميركا ورغبتهم في الإنعزال وعدم مُخالطة غيرهم. ويُفضل تسجيل يومياته في الولايات الجنوبية، ومنها نيوأورلينز، ويستشفُ وجود تشابه من حيث التصميم بين بعض المناطق في تلك الولاية مع مدن أوروبية منها فينيسيا. ويقدم معلومات عن جذور «مهرجان ماردي غراس» وما يشهده من نشاطات مميزة.
مفصل آخر من الكتاب هوالذكريات والحوارات التي أجريت مع المحرر، بحيث يسردُ كالفينونتفاً عن طفولته ونشوئه في عائلة لا تهتم سوى في الزراعة، إلى حتى يحدثُ إنزياح عندما ينتقلُ الإبن من كلية الزراعة إلى الآداب ويتخصص في «جوزيف كونراد».
يُذكر أنَّ كالفينويمتلك رؤية نقدية عميقة يبرزُ هذا الجانب من شخصيته عندما يتناول تجربة بافيزي بالإعجاب، فهماً حتى أسلوب إيتالوكالفينومغاير لما يعتمدهُ صاحب «الصيف الجميل» في كتاباته. بافيزي مثلا لم يؤمن بتوظيف الأسطورة التاريخية قناعاً لشخصيات وثيمات أدبية. اما كالفينوفلا يختار نوعية السيرة التي يخطها مسبقاً ولايحددُ إطاراً نفسياً أوواقعياً أورومنطيقياً، لأن ما يهمه هوتعميق العلاقة مع العالم. وعطفاً على ما تجاوز ذكره فإنَّ كالفينويجدُ أهمية في كتابة الرحلات بوصفها محاولةً لتوثيق ما تمرُّ به الدول من تحولات جوهرية، إضافة إلى كونها أداة للتواصل بين ذات المحررة والواقع. ووفق كالفينوفإنّ المؤلف لا يمكنه حتى يخطَ بطريقة جيدة إلا عن الأمور التي هجرها خلفه لعَّل من أبرز أجزاء الكتاب هوما يستعيدُ فيه كالفينوتاريخ إتصاله بالحزب الشيوعي. ويقولُ إذا ما دفع به نحوهذا الإختيار لم يَكُنْ دافعاً أيدولوجيا بقدر الشعور بالحاجة إلى الانطلاق من صفحة بيضاء، ولا ينكرُ تأثير والديه المعجبين بالاتحاد السوفيتي. ويبدوحتى ما جذب كالفينوإلى الحزب الشيوعي هونشاط الحزب وإنضباطه. يبدأُ كالفينوفي هذه الفترة بنشر قصصه الرمزية ويصبحُ مُنظماً للشباب في الجبهة. هنا ينوه المحرر بدور أمه في هذه التجربة ويعتبرها مثالاً يحتذى في الثبات والإقدام وهي تتحلى بالعدالة وفضائل أسرية على حد وصفه.
يقتحمُ كالفينومعهجر المقاومة من دون سابق إنذار وتأتيه فرصة لتكوين إحساسه الداخلي بالمأساة، لأنَّ المأساة الخارجية شيدت بالإتقان كما نطق أحد اصدقائه. يؤكدُ إيتالوكالفينوعلى تمسكه بمدأين في جميع محطات حياته أولاً: شغفه بالثقافة العالمية، ثانياً ما يتطلعُ إليه من تثقيف الطبقة الحاكمة كي تساهم في إعطاء المجتمع ملامحه. ويربطُ كالفينوسعادته بإقامته في مدينة تسمحُ له بأنقد يكون لامرئياً. ويبدوأنه محرر إنطوائي غير متصالح مع الكاميرا والأضواء الإعلامية. وهويعتقد حتى المبدعين الكبار ليس لهم شكل أوسحنة واضحة، فيضرب المثل بشكسبير الذي تغيب المعلومات عن حياته الخاصة. وهنا يتوصّل إلى نتيجة، وهي حدثا كان المحرر مجهولاً يكبرُ حضوره الإبداعي وتأثيره. وبما أنّ كالفينوعاش طفولته وشبابه في ظل الفاشية فإنه لايقفزُ فوق هذه الفترة، بل يقف عندها ليوثقها. ونرى حتى ذاكرته كانت تخزّن صور موسوليني. ويتتبعُ كالفينومراحل تغوّل السلطة الفاشستية عبر رصد صور الزعيم، على اعتبار حتى تلك الصور مرآة لعهد الفاشية في تاريخ إيطاليا. وأخيراً ما يتفرّدُ به هذا الكتاب هوغزارة المعلومات بين دفتيه بحيثُ ترسمُ سحنة المحرر على المستوى الإبداعي والشخصي في ذهن المتلقي.
الهامش
- ^ كه يلان مُحمَد (2018-10-06). "«ناسكُ في باريس» يوثّق سفر كالفينوبين الأزمنة والأمكنة". صحيفة الحياة اللبنانية.