الكلب الأبيض والأرجوحة
في مقاطعة گاوومي، موطن ولادة المحرر الصيني مويان وموطنه الأدبي الثابت، تتحوّل القصص إلى استعارات وأساطير. وهذا ما يتجلى في مجموعته القصصية «كلبٌ أبيض وأرجوحة»، التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار «سوي». يقود يان قارئه فيها إلى عالمٍ غريب بقدر ما عنيف، تنبثق فيه أرقّ المشاعر من الكوميديا الفظّة، ويساعد الضحك والحلم على فهم الواقع القاسي الذي اختبره المحرر خلال سنّي طفولته ومراهقته.
وتجدر الإشارة بدايةً إلى حتى القصص السبع التي تتألف المجموعة منها تشكّل نقطة انطلاق مسيرة يان الكتابية، ومعها تلك «الواقعية الهلسية» التي تميّز رواياته الشهيرة اللاحقة. قصص متفاونة الحجم تدور أحداثها في الريف الصيني الفقير وتصوّر عمل الفلاحين الشاق، روابطهم، وتحوّلات حياتهم على ضوء «الثورة الثقافية» ودخول التعليم إلى قراهم. أما أبطالها فيتراوحون بين عوراء وضرير وأبكم وطفل بفمٍ كبير ورجل بخصية واحدة وأشخاص برؤوس مربّعة وامرأة فاتنة تحمل لقب «غطاء إبريق شاي» نظراً إلى جمالها.
السيرة الأولى التي تفتح المجموعة وتمنحها عنوانها خطها يان بصيغة المتكلّم نظراً إلى جانبها السيرذاتي، ويروي فيها عودة معلّم شاب إلى القرية التي وُلد فيها ولقاءه على مدخلها بكلبٍ أبيض وقروية يتبيّن له أنها صديقة طفولته التي انقلب قدرها رأساً على عقب حين فقدت واحدة من عينيها بسببه. لقاء لن يلبث حتى يتحوّل إلى ذريعة لتذكّر سنوات حياته الأولى ووصف الحياة القروية في هذا المكان خلال تلك الحقبة التي تسبق انفتاح الصين على العالم وبدء الإصلاحات؛ حقبة كان جنود «جيش الصين الشعبي» فيها موضع إعجاب القرويين، والشيوعية مثالاً برّاقاً لهم. وعلى هذه الخلفية، نتعرّف إلى السيرة المأساوية لهذه المرأة التي كانت فتاةً جميلة أمامها مستقبل واعد، قبل حتى يجبرها الحادث الذي تعرّضت له في صغرها على التخلّي عن أحلامها والزواج من قروي فظّ وأبكم أنجبت منه ثلاثة صبيان أتوا إلى العالم بُكْماً بدورهم.
في سيرة «زوجة كومندان»، يلتزم شبّان وشابات متعلّمون توجيهات الزعيم ماوويحضرون إلى إحدى قرى گاوومي للعمل في الزراعة وحمل الإنتاج. ولكن بسرعة يتّضح أنّ عملهم جنباً إلى جنب مع القرويين لا يجعل من الطرفين طائفة متساوية في الحقوق والواجبات، فسواء أدّوا عملهم أم لا، يحصل هؤلاء الشبّان والشابات على قوتهم اليومي. لكنّ هذا لا يعني حتى لا إكراهات مفروضة عليهم، فحين تحبل واحدة منهم خارج إطار الزواج، تصبح المسألة قضية وطنية تقضّ مضجع كبار المسؤولين في الحزب الحاكم. ولولا تدخّل صديق الراوي، الشاب القروي الملقّب بـ «كومندان»، وزقابل منها، لأجبرها هذا الحزب على الإجهاض مخافةً من تشويهها سمعته بالكيفية التي حبلت بها.
في السيرة الأخيرة، «بذرة شقيّ»، نتعرّف إلى شاب يدعى يودوغوان ويفلت بأعجوبة من الإعدام رمياً بالرصاص لفراره من الجيش، قبل حتى يغتصب بالحيلة سلطة قائد كتيبته المؤلّفة من مدنيين مجنّدين ويمارس مهمّاته بمهارة تجعله يكسب تقدير المرشد السياسي الذي يحرّكه إيمانٌ لا يتزعزع بعقيدة الحزب الشيوعي. ولأن احتقار دوغوان هذا الأخير لن يلبث حتى ينقلب إلى إعجاب، يتحوّل تحت أنظارنا من شقيّ يكره حياة الجندية إلى أحد أبطال الحرب التي أعربها ماوعلى القوميين والاقطاعيين.
وسواء في هذه القصص الثلاث أوفي تلك الأخرى التي تتضمّنها المجموعة، نعثر على جميع ما يميّز نصوص مويان: لغته الغنية بالألوان والنكهات التي لا يتردد في إدخاله عليها عناصر وعبارات من اللغة المحكيّة، غالباً فجّة؛ إطاره الجغرافي والاجتماعي المفضّل، أي القرى الصينية بنمط الحياة فيها وعاداتها وتنطقيدها وأعيادها وسلطة العائلة على جميع واحد من أبنائها. من دون حتى ننسى تلك الوقفات التي تتخلّل مشاهد الحياة المحمومة من أجل التأمل بالإطار الطبيعي الرائع في خصوصياته ولا مبالاته، ونقل الأحاسيس البصرية والسمعية الناتجة منه.
نعثر أيضاً على نبرة المحرر الساخرة وحسّ النادىبة العالي لديه، وخلفهما على تلك الزخرفة المعقَّدة لسردياته وهجره غالباً نهايتها مفتوحة على المجهول. إذ هل سيستجيب راوي سيرة «كلب أبيض وأرجوحة» خلال زيارة قريته إلى رغبة صديقة طفولته في مضاجعته مرةً واحدة على أمل الحبل منه بطفلٍ لاقد يكون أبكم مثل أولادها من زوجها الحالي،يا ترى؟ وهل حتى بطل سيرة «ثلاثة أحصنة»، الذي يظهر وكأنه يفضّل جِياده على زوجته، تَرَكَ هذه الأحصنة تموت من التعب تحت أنظارنا كي ترضى زوجته عليه وتقبل بالعودة إلى داره،يا ترى؟ وماذا عن المرأة الفاتنة الملقّبة بـ «غطاء إبريق شاي»، هل انتهت مقتولة،يا ترى؟ وعلى يد مَن؟
نعثر أخيراً ـ وليس آخراً ـ على تلك الحِكَم الشعبية التي يطعّم يان جميع نصوصه بها عبر وضعها على لسان شخصياته، ونذكر منها: «لا تهوُّر في غياب الهموم، ولا جبن في لحظة حرجة»، أو«المرأة المتزوّجة أشبه بحصانٍ في حالة شبق، تكفي تربيتة صغيرة على ردفها كي تثير حميّتها»، أو«وحده البِراز الطازج يلتصق بالجلد».
وداخل هذا الفيض من الأقوال المأثورة، تنزلق أحياناً أقوالٌ للرئيس ماولم يهضمها المحرر أويسخر من سذاجتها، مثل «لا تقدر الحرارة على تحويل الحجر إلى عصفور، لكنها قادرة على تحويل بيضة إلى فرخ». ولا عجب في ذلك، فالسياسة والتاريخ يحضران دائماً في سردياته، ومعهما ذلك الصراع بين القديم والحديث الذي يستثمره لنقد مكتسبات «ثورة ماوالثقافية» ونقاطها الست عشرة، والهزء من كوادر الحزب الشيوعي ووجوهه الرسمية، وإن استشفّينا احتراساً لدى تطرّقه إلى النظام الذي رسّخه هذا الحزب وتحوّلاته منذ وصوله إلى الحكم عام 1949. احتراس يعود حتماً إلى عيش المحرر في وطنه وعدم رغبته في المغادرة.
وبالتالي، هل يمكننا حتى نقول إذا مويان، الحائز جائزة نوبل للآداب عام 2012، هوناقد للصين الشيوعية،يا ترى؟ من دون شك، مهما حاول بعض الكتّاب الصينيين الذين يعيشون في الخارج تصويره كمحرر مقرَّب من النظام، فحين لا يتناول استبداد سلطات بلده السياسية والعسكرية بواسطة المجاز والاستعارة، يلقي نظرة شديدة الواقعية على ظلمها وفسادها.
الهامش
- ^ أنطوان جوكي (2018-10-03). "الصين «الشيوعية» بعين مويان الساخرة". صحيفة الحياة اللبنانية.
نطقب:Story-collection-stub