الفوضى الخلاقة
الفوضى الخلاقة Constructive Chaos أوالفوضى البناءة، هي حالة سياسية أوإنسانية يتسقط حتى تكون مريحة بعد فترة فوضى متعمدة الإحداث. ويعتقد أصحاب وأنصار الفوضى الخلاقة بأن خلق حالة من الفوضى وعدم الاستقرار؛ يفترض أن يؤدي حتماً إلى بناء نظام سياسي جديد، يوفر الأمن والازدهار والحرية. غير أنه عادة ماقد يكون لها أهداف أخرى تصب في مصلحة من يقوم على إحداثها.
ويذكر حتى هذا المصطلح عثر في أدبيات الماسونية القديمة، حيث ورد في أكثر من مرجع، كما أشار إليه الباحث الأمريكي دان براون. وينسب إلى الأب ديڤ فلمنگ بكنيسة المجتمع المسيحي بمدينة پتسبرگ بپنسلڤانيا قوله: إذا الإنجيل يؤكد لنا حتى الكون خلق من فوضى، وأن الرب قد اختار الفوضى ليخلق منها الكون، وعلى الرغم من عدم معهدتنا لكيفية هذا الأمر إلا أننا متيقنون حتى الفوضى كانت خطوة مهمة في عملية الخلق.
ويؤكد مارتن كروزرز - مؤسس ممضى حديث في فهم العلاج النفسي - حتى الفوضى إحدى العوامل المهمة في التدريب والعلاج النفسي، فعند الوصول بالنفس إلى حافة الفوضى يفقد الإنسان جميع ضوابطه وقوانينه، وعندها من الممكن حتى تحدث المعجزات.. فيصبح قادراً على خلق هوية جديدة، بقيم مبتكرة ومفاهيم حديثة، تساعده على تطوير البيئة المحيطة به.
التاريخ
يستند الأساس الأيديولوجي النظري لسيرورات الفوضى الخلاقة تاريخيا إلى الثورة الفرنسية باعتبارها مرجعا قابلا للدرس والمقارنة بشعاراتها المعروفة الحرية والعدالة والمساواة، وعلى الرغم من نبل المنطلقات النظرية للثورة الفرنسية وإيجابياتها إلا أنها ولدت آثارا جانبية ضارة تمثلت بسيطرة العامة التي غيرت الأوضاع إلى فوضى عارمة تفتقر إلى التنظيم في ظل غياب مرجعيات فكرية وسياسية ساهمت في تآكل الثورة وكان من نتائجها عودة الملكية إلى فرنسا ونموالنزعة الشوڤينية الفرنسية التي أرادت تصدير الفوضى الثورية إلى دول أوروبا دون الالتفات إلى الخصوصيات المكونة لهذه الدول.
الفكر والتخطيط
تعتمد نظرية الفوضى الخلاقة في الأساس على ما أسماه الأمريكي صموئيل هنتنجتون بفجوة الاستقرار وهي الفجوة التي يشعر بها المواطن بين ما كائن وما ينبغي حتىقد يكون، فتنعكس بضيقها أواتساعها على الاستقرار بشكل أوبآخر. فاتساعها يولد إحباطاً ونقمة في أوساط المجتمع، مما يعمل على زعزعة الاستقرار السياسي، لاسيما إذا ما انعدمت الحرية الاجتماعية والاقتصادية، وافتقدت مؤسسات النظام القابلية والقدرة على التكييف الايجابي، ذلك حتى مشاعر الاحتقان قد تتحول في أية لحظة إلى مطالب ليست سهلة للوهلة الأولى، وأحياناً غير متسقطة، ما يفرض على مؤسسات النظام ضرورة التكيف من خلال الإصلاح السياسي، وتوسيع المشاركة السياسية، واستيعاب تلك المطالب.
أما إذا كانت تلك المؤسسات محكومة بالنظرة الأحادية؛ فإنه سيكون من الصعب الاستجابة لأي مطالب، إلا بالمزيد من الفوضى التي يرى هنتجتون أنها ستقود في نهاية الأمر، إلى استبدال قواعد اللعبة واللاعبين.
ويرى البعض حتى الفوضى الخلاقة ترتكز على أيديولوجيا أمريكية نابعة من مدرستين رئيستين: الأولى صاغها فرانسيس فوكوياما بعنوان نهاية التاريخ ويقسم فيها العالم ما بين عالم تاريخي غارق في الاضطرابات والحروب، وهوالعالم الذي لم يلتحق بالنموذج الديمقراطي الأميركي. وعالم آخر ما بعد التاريخي وهوالديمقراطي الليبرالي وفق الطريقة الأمريكية. ويرى حتى عوامل القومية والدين والبنية الاجتماعية أبرز معوقات الديمقراطية.
المدرسة الثانية صاغها هنتنگتون بعنوان صراع الحضارات معتبراً حتى النزاعات والانقسامات في العالم سيكون مصدرها حضارياً وثقافياً. ذاهبًا إلى حتى الخطوط الفاصلة بين الحضارات ستكون هي خطوط المعارك في المستقبل. ورغم تناقض المدرستين، إلا أنهما تتفقان على ضرورة بناء نظام عالمي حديث تقوده الولايات المتحدة، إضافة إلى معاداة الحضارة الإسلامية باعتبارها نقيضاً ثقافياً وقيمياً للحضارة الغربية.
دول القلب ودول الثقب
طور نظرية الفوضى الخلاقة أحد أبرز المحاضرين في وزارة الدفاع الأمريكية وهوالبروفيسور توماس بارنيت فقد قسّم العالم إلى من هم في القلب أوالمركز (أمريكا وحلفائها)، وصنف دول العالم الأخرى تحت مسمى دول الفجوة أوالثقب حيث شبهها بثقب الأوزون الذي لم يكن ظاهرًا قبل أحداث 11 سبتمبر. يمضى بارنيت إلى حتى دول الثقب هذه هي الدول المصابة بالحكم الاستبدادي، والأمراض والفقر المنتشر، والقتل الجماعي والروتيني، والنزاعات المزمنة، وهذه الدول تصبح بمثابة مزارع لتفريخ الجيل القادم من الإرهابيين.
وبالتالي فإن على دول القلب ردع أسوأ صادرات دول الثقب، والعمل على انكماش الثقب من داخل الثقب ذاته. فالعلاقات الدبلوماسية مع دول الشرق الأوسط لم تعد مجدية؛ ذلك حتى الأنظمة العربية بعد سقوط العراق لم تعد تهدد أمن أمريكا، وأن التهديدات الحقيقية تكمن وتتسع داخل الدول ذاتها، بعمل العلاقة غير السوية بين الحكام والمحكومين. ويخلص بارنيت إلى حتى تلك الفوضى البناءة ستصل إلى الدرجة التي يصبح فيها من الضروري تدخل قوة خارجية للسيطرة على الوضع وإعادة بنائه من الداخل، على نحويعجل من انكماش الثقوب وليس مجرد احتوائها من الخارج، منتهيًا بتخويل الولايات المتحدة القيام بالتدخل بقوله:”ونحن الدولة الوحيدة التي يمكنها ذلك”.
الاستثمار الأمريكي للنظرية
حاولت الولايات المتحدة الأمريكية استثمار حالة الفوضى تاريخيا في عدة أماكن من العالم كما عملت في إيران أيام حكم مصدق وقد نجحت حينها بإعادة الشاه إلى سدة الحكم الأمر التي فشلت فيه عقب اندلاع الثورة الإسلامية عام 1979.
وانتهجت استراتيجية فوضى الاحتواء المزدوج في التعامل مع الثورة أثمر عن قيام الحرب العراقية الإيرانية، وعقب انهيار جدار برلين وسقوط الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفيتي اعتمدت إستراتيجية الفوضى البناءة في التعامل مع الجمهوريات المستقلة، وتعتبر رومانيا نموذجا مثاليا لتفجير الفوضى في بلدان أخرى، وبالرجوع إلى المظاهرات التي عمت جورجيا وأوكرانيا كان العنصر الحاسم في نجاح المظاهرات هوالتهديد بالقوة من قبل الولايات المتحدة وذلك بعد تحول السياسة الخارجية الأميركية من الاحتواء المزدوج أيام الحرب الباردة إلى إستراتيجية أمركة العالم بالقوة والعمل على تغيير الأنظمة والجغرافيا عن طريق الفوضى الخلاقة، ولا مانع من اعتماد الاحتلال المباشر إذا لزم الأمر في ظل غياب استيراجيات الردع، وقد أفرزت المتغيرات البنيوية للواقع الدولي نمووازدهار العولمة الأميركية بحيث أصبح القيام بواجبات الأمركة من صميم مهمات رؤساء الولايات المتحدة، ويعد الرئيس جورج دبليوبوش الذي تأثر بفكرة المسيح المخلص الأكثر تطرفا في فرض سياسات الأمركة من خلال إطلاقه الفوضى الخلاقة في مختلف أنحاء العالم، وقد تأثر بوش بعدد من الكتابات التي تؤسس للفكر السياسي المنظم للفوضى الخلاقة واعترف بأن كتاب "قضية الديمقراطية يمثل الخريطة الجينية لرئاسته وهومن تأليف المنشق السوڤيتي المهاجر إلى إسرائيل والذي شغل منصبا وزاريا في حكومة شارون ناتان شارانسكي، وتتلخص رؤية شارانسكي باعتبار الإسلام حركة إرهابية لا تهدد إسرائيل فقط وإنما العالم الغربي بأكمله، ويرى حتى استئصال الإرهاب لا يتم باستخدام القوة وتجفيف المنابع فقط وإنما بمعالجة الأسباب العميقة للإرهاب التي تنبع من سياسات الأنظمة العربية الاستبدادية والفاسدة وثقافة الكراهية التي تنشرها، ويتفق شارانسكي بهذا الطرح مع الأطروحة الشهيرة لهنتنگتون التي تنص على حتى الإسلام عدوحضاري للغرب.
وتمثل كتابات إليوت كوهن أحد المصادر المهمة لنظرية الفوضى الخلاقة وخصوصا كتابه "القيادة العليا، الجيش ورجال الدولة والزعامة في زمن الحرب" ويرى كوهين حتى الحملة على الإرهاب هي الحرب العالمية الرابعة باعتبار حتى الحرب الباردة هي الثالثة، ويؤكد بأن على الولايات المتحدة حتى تنتصر في الحرب على الإسلام الأصولي.
ومن المساهمات الرئيسية في صياغة نظرية الفوضى الخلاقة ما قدمته المراكز البحثية الكبرى في الولايات المتحدة وعلى رأسها مؤسسة أميركان إنتربرايز للدراسات وتعتبر كتابات راوول مارك گيريشت وهومنظر المحافظين الجدد والمختص في الشأن العراقي والشيعة أبرز من يمثل هذا المركز، ويؤكد گيريشت حتى إدارة الرئيس بوش بلورت مشروع الشرق الأوسط الكبير بالاعتماد جزئيا على أبحاث مؤرخين نافذين أمثال برنارد لويس من جامعة پرنستون وفؤاد عجمي من جامعة جونز هوبكنز، ومن المعروف حتى لويس أحد المناصرين لإسرائيل وكان قد أعرب عقب حرب الخليج الثانية عام 1991 عن موت العالم العربي ككيان سياسي واقترح استخدام مصطلح الشرق الأوسط بدلا من "العالم العربي"، ويقوم "معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى" بدور لا يقل أهمية عن المؤسسة السابقة في صياغة نظرية الفوضى الخلاقة، ويمثل روبرت ساتلوف المدير التطبيقي المعروف في المؤسسة أحد أقطاب هذه النظرية، وهومن أشد المعجبين بأفكار برنارد لويس ولا يفتأ يردد آراءه المتعلقة بالعالم العربي، وكان قد اقترح إقصاء مصطلحي العالم العربي والإسلامي من القاموس الدبلوماسي الأمريكي وطالب بالتعامل مع العالم العربي من خلال مقاربة خاصة بكل بلد على حدة ومحاربة الأصولية الإسلامية بلا هوادة والتي تسعى برأيه إلى إلغاء الحدود الجغرافية والطبقية.
أما فؤاد عجمي وهومن أنصار الليكود والمحافظين الجدد فيعتبر الناطق الرئيسي للرؤية الطوائفية للواقع الاجتماعي والسياسي في العالم العربي، وتحظى رؤيته بقبول واسع الانتشار في صفوف الإدارة الأميركية ويمارس تحريضا متطرفا في مجمل القضايا المتعلقة بالعالم العربي والإسلامي.
وتمثل الأطروحة الرئيسية لنظرية الفوضى الخلاقة على اعتبار الاستقرار في العالم العربي عائقا أساسيا أمام تقدم مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، ولذلك لا بد من اعتماد سلسلة من التدابير والإجراءات تضمن تحقيق رؤيتها التي تطمح إلى السيطرة والهيمنة على العالم العربي الذي يمتاز بحسب النظرية بأنه عالم عقائدي وغني بالنفط الأمر الذي يشكل تهديدا مباشرا لمصالح الولايات المتحدة، وينادي أقطاب نظرية الفوضى الخلاقة باستخدام القوة العسكرية لتغيير الأنظمة كما وقع في أفغانستان والعراق، وتبني سياسة التهديد بالقوة التي تساهم في تفجير الأمن الداخلي للعالم العربي وتشجيع وتأجيج المشاعر الطائفية وتوظيفها في خلق الفوضى كما هوالحال في التعامل مع الوضع اللبناني والسوري والعراقي.
المصادر
- ^ "الفوضى الخلاقة بين الفكر والممارسة". براقش. 2011-02-07. Retrieved 2011-03-07.
- ^ "نظرية الفوضى الخلاقة واستراتيجيات الهيمنة في العالم العربي". جريدة الغد. 2006-03-18. Retrieved 2011-03-07.
وصلات خارجية
- خطاب كوندوليزا رايس عن الفوضى الخلاقة في الشرق الأوسط، 2 نوفمبر 2005، في مؤتمر آيپاك، اللوبي الصهيوني.