الرجل ذوالأربعين إيكو

هذا الموضوع مبني على
منطقة لابراهيم العريس
بعنوان .

الرجل ذوالأربعين إيكوبالفرنسية: L'Homme aux quarante écus هي عمل خطه المحرر الفرنسي ڤولتير في 1768.

للوهلة الأولى، لم يكن في مقدور قرّاء خط فولتير المعجبين، ان يصدقوا حين قرأوا النص الذي أصدره عام 1767 في عنوان «الرجل ذوالأربعين ايكو»، ان هذا النص هو، حقاً، من كتابة نجمهم الفكري والأدبي الكبير، وقد بات في قمة نضجه وتجاوز الثانية والسبعين من عمره... لكن هذا لم يكن سوى للوهلة الأولى، وبالنسبة الى قراء كانوا يتسقطون من فولتير، وكعادته ان يدخل موضوعه في شكل مباشر محدداً ما اذا كان النص الذي يقدمه، رواية أومسرحية أوكتاباً فلسفياً أواقتصادياً، لا حتى يعمل كما هوفاعل الآن: يخط نصاً ضائعاً حائراً بين الأنواع، يظهر رواية ثم يستنكف، وكتاباً في الفكر ثم يبتعد، ومسرحية ممكنة ثم يتخلف عن ذلك. بعد ذلك وحين صار «الرجل ذي الأربعين ايكو»، معروفاً ومقروءاً على نطاق واسع، تمكن القراء من حتى يتعهدوا في محرره على صاحب «كانديد» وغيرها من الأعمال الفولتيرية التي كانت كالدمية الروسية تحمل طبقة فوق طبقة بحيث ان التعهد عليها يحتاج صبراً وتأنياً منذ البداية. وطبعاً لن نقول هنا حتى هذا الكتاب كان، أوسيعتبر لاحقاً، من خط فولتير المهمة، بل إذا كثراً من دارسي صاحب «القاموس الفلسفي» و«زاديگ» وملهم عصر التنوير الفرنسي، سيرون ان هذا الكتاب أضعف، أسلوبياً، من انقد يكون فولتيرياً، بيد ان هذا لا يمنع النص من ان يبدو، في نهاية الأمر، جامعاً لأفكار فولتير، في المجتمع والسياسة والاقتصاد والموقف من الكنيسة والدولة، مبسطاً إياها في شكل يجعلها في متناول المواطن العادي. من هنا، إذا كان الكتاب لم يحظ، لدى ظهوره بإعجاب النقاد والمفكرين والدارسين، فإنه انتشر شعبياً، لأن أنصاف المثقفين، كي لا نقول العامة في هذا السياق، وجدته يجيب على تطلعات متفرقة كانت تشغل بالها، لكنها لا تعهد كيف من الممكن أن تعبّر عنها مجتمعة... فجمعها فولتير في نص واحد.

يدور النص، الذي يظهر ظاهرياً على الأقل، على شكل رواية - أوحكاية بالمعنى الأدق للحدثة - حول بطله الذي يقدم إلينا هنا بصفته المواطن الفرنسي المتوسط، الذي لا هو- مبدئياً - بالفقير ولا هوبالغني. إنه متوسط الحال، خصوصاً ان مدخوله الشهري لا يقل عن 40 إيكو(وهومبلغ كان يعتبر جيداً في ذلك الحين، فهماً بأن الإيكوهواسم العملة الفرنسية خلال القرن الثامن عشر الذي تدور فيه الأحداث، وكان الاسم الذي كاد يعتمد أول القرن الواحد والعشرين للعملة الأوروبية الموحدة قبل اعتماد «اليورو» بصورة نهائية). لكن وضع هذا المواطن ويطلق عليه فولتير اسم أندريه، ليس على مثل هذا اليسر، ذلك ان مصلحة الضرائب تقتطع من مدخوله 12 إيكوفي جميع شهر، ضريبة على أملاكه البسيطة التي توفر له المرتب الشهري المذكور. وبهذا تهبط مصلحة الضرائب بصاحبنا، في شكل مباشر من وضعية الطبقة الوسطى الى وضعية أقرب الى الطبقة الدنيا... وكأن هذا لا يكفيه هوالذي لا يكف عن الشكوى شهراً بعد شهر، إذ ها هي السلطات الإجرائية الشرعية التي تعتبر نفسها شريكة في جميع أرض ومال ومدخول، ها هي لمناسبة الخسائر التي تكبدها البلد في حرب خاضها أخيراً، تقتطع من صاحبنا عشرين إيكوإضافية. وهنا إذ لم يعد في وسعه حتى يسدد ما مطلوب منه مهما حاول، يرمى أندريه في السجن بدم بارد، كي يفي بتعداد أيام سجنه ما مترتب عليه.

بعد حين تكون أيام السجن كَفَت لـ «تسديد الدين» فيطلق سراح اندريه وهو، بعد، ذاهل مما وقع له. ويكون اندريه في وسط ذهوله، حين يحدث له، في شكل غير متسقط، ان يلتقي برجل من الأعيان يفهمه بسرعة انه يملك، نقداً وعدّاً، ما لا يقل عن مليون إيكو، ومع هذا فإن هذا الرجل، وكما يخبر أندريه بنفسه، لا يدفع اية ضرائب ولا يساهم في اي مجهود حربي سابق أولاحق... يزداد ذهول صاحبنا وتستبد به سلسلة من اسئلة حائرة، يضرب في سبيل الحصول على إجابات عليها، جميع أنواع الأسداس بكل أنواع الأخماس، لكنه لا يصل الى اي نتيجة، فيقرر لحظتذاك ان يستعين بمن يتوسم لديه خبرة وفهم بمثل هذه الأمور المستعصية. ومن هنا يلجأ أول ما يلجأ الى عالم رياضيات ضليع يتبرع بشرح الأمور له... وبالعمل خلال جلسات عديدة يقوم العالم باستخدام جميع معارفه وقدرته على الإقناع كي يشرح لأندريه أنواع الضرائب وتراتبيتها في جميع بلد من بلدان عديدة يعهد الكثير عنها. ويتشعب الشرح ويطول الى درجة ان اندريه يزداد ذهولاً وفضولاً، ويقرر بعدما فرغ من تلقي الدروس والشروح لدى العالم، يقرر ان يلجأ الى مزارع خبير بشؤون زراعته وكلفتها ومردودها، لعله يفهمه الوضع الضريبي من وجهة نظره الزراعية الخاصة. إلى غير ذلك تظهر نقاشات وشروحات جديدة مسهبة وشديدة المجال، يخرج منها اندريه وقد زاد ارتباكه واختلاط الأمور في ذهنه... لكنه في الوقت نفسهقد يكون ازداد فضولاً... و- هذه المرة - شغفاً بالفهم والفهم، فهو، حتى وإن كان عجز عن فهم حالته الضرائبية الخاصة، اكتشف على الأقل ان في إمكانه ان يكتسب الآن معارف ومعلومات، لم يكن له شأن بها من قبل. وهنا، إذ يزداد تطلعه الى الفهم يجد نفسه امام مشكلات جديدة وأسئلة حائرة اضافية تتعلق هذه المرة بالهيئات الكنسية، التي يجدها، بدورها، تتدخل في الشؤون الضرائبية والمالية، من دون ان يظهر عليها في ظاهر الأمور ان لها علاقة بذلك كله. ومن الهيئات الكنسية، تنتقل معارف اندريه الى مسائل قضائية وحقوقية أومن هناك، مثلاً الى البحث في عدم الجدوى من الحكم بالإعدام على اي كان. وانطلاقاً من هنا ينتقل اندريه الى فهم ضرورة انقد يكون المرء متفهماً، وضرورة التعليم عموماً في حياة الأفراد والمجتمعات، وبالتالي ضرورة الكتاب، ومن ثم أهمية نشر أفكار التنوير... الخ.

إلى غير ذلك، وحتى إذا كان صاحبنا عجز في خضمّ ذلك كله عن فهم الكيفية التي بها يخسر مدخوله، شهراً بعد شهر، والسبب الذي يجعل ايام سجنه تسدد ديونه للسلطات، فإنه يكتسب من الفهم والفهم وربما حتى من الخبرة في الأمور، ما يجعله مثقفاً الى حد ما، ومتميزاً عن الكثير ممن يعهدهم. وإذ يجد نفسه ذات لحظة وارثاً لمبلغ ما، يتجه الآن نحوتحسين اوضاعه، منفقاً بعض ما ورث على تكوين مخطة صغيرة خاصة به، مليئة بالدراسات والخط. ويحوله هذا كله من المواطن البسيط اندريه الى «السيد أندريه» الذي بتنا الآن نراه في المطاعم الفاخرة، وفي مجالس السادة، انيقاً رشيقاً متحدثاً ومستمعاً. وكل هذا يحدث بالتزامن مع المعجزة التي، نراه لا يفهم حتى الآن سرها، على رغم جميع ثقافته وخبرته: إنه الآن لا يدفع اي ضرائب، صار تماماً مثل صاحبه الغني مالك المليون إيكو. لكنه الآن وبدلاً من ان يسعى الى كشف اللغز، يفضّل السكوت عنه. ماله ومال وجع الرأس. لقد حُلّت مشكلته ولومتأخرة. فليسع الآخرون من المواطنين البسطاء الآن، الى حل اللغز، أما هوفيكفيه الجهد الذي بذله من دون جدوى! اوبالأحرى بجدوى لم تكن متسقطة: حصوله على الفهم والفهم بفضل ذلك التصرف الإداري الضرائبي الذي كان يعتقده أحمق، فإذا به مفيد ولو... بالمواربة.

المحرر

واضـــح حتى فرانسوا ماري آرويــــه (فولتير)، الذي عاش بين 1694 و1778، أوصــــــل سخريتــــه الاجتماعية والسياسية هنا الى ذروتها، ملخصاً الكثير من افكاره وأساليبه، معبّــــراً، في شكــــل مكثف عن زعامته الفكرية لتيار التنوير الذي سيكون بعد سنوات قليلة من رحيل هذا المحرر الساخر، في خلفية الثورة الفرنسية التي ستقوم، في جزء منها على الأقل بغية حل اللغز الذي لم يتمكن مسيوأندريه من الوصول الى حل له.