لم يعش موتسارت سوى خمسة وثلاثين عاماً. ومع هذا نعهد أنه ألف من الموسيقى، بين أوبرات ومقطوعات وسيمفونيات وقداسات وغيرها، ما يحتاج أي عبقري آخر الى حتى يعيش سبعين عاماً لكي يؤلف ما يماثلها، كمّا على الأقل... ولندع جانباً هنا، مسألة العبقرية وروعة التأليف. فهل هذا جميع شيء،يا ترى؟ أبداً... بالتأكيد. ذلك ان موتسارت لوعاش أكثر، وكان له من زمن يتأمل فيه أحواله وأحوال العالم، بعيداً من ولعه بالموسيقى، لكان من شأنه حتى يبدع في مجالات أخرى، أعمالاً كانت ستخلّد بدورها. ومن هذه المجالات، الكتابة. ففي الكتابة أيضاً كان صاحب «الناي المسحور» و«خطف في السراي» موهوباً أيضاً. طبعاً نعهد أنه لم يخلّف روايات أودراسات تؤكّد هذا. ونعهد ان بعض الكتابات التي حوّلها الى أعمال غنائية موسيقية تبدت متوسطة في نهاية الأمر، ونعهد أيضاً حتى مزاجه في اختيار بعض نصوص الآخرين ليحوّلها أعمالاً مسرحية - موسيقية من إبداعه، كان عجولاً غير مدقق، ما أسقطه مرات في ورطات فنية مؤسفة (كما الحال مع أوبرا «مدير المسرح»)، غير ان علينا، للتيقن من موهبة موتسارت في عالم الكتابة، حتى نبحث في مكان آخر.

واضح ان كثراً من الذين عهدوا موتسارت في حياته، أوعهدوا عنه شيئاً خلال تلك الحياة، كانوا يعهدون أنه كان يكثر من كتابة الرسائل. غير ان ما من أحد كان يتصور حتى يوماً ما سيأتي ليكتشف فيه في مدينة فيينا عاصمة النمسا، عند نهاية القرن التاسع عشر، أكثر من ثلاثة آلاف رسالة مكتوبة بخط موتسارت. كان من اكتشف تلك الرسائل يدعى هنري دي كورزون، الذي كان يفخر قبل ذلك بأنه يملك نحودزينتين من رسائل بعث بها موتسارت الى أبيه... لكنه منذ حقق ذلك الاكتشاف، صارت الرسائل الأولى مزحة... فعنده الآن جميع هذه المئات من الرسائل. أمر مذهل بالطبع. خصوصاً حتى الخبراء، اذ دخلوا على الخط، أكدوا في شكل قاطع ان الرسائل حقيقية لا لبس في الأمر ولا غموض. إلى غير ذلك صار ثمة كنز في عالم الفن والكتابة، اسمه رسائل موتسارت أضيف الى رسائل أخرى شهيرة في هذا العالم، لعل أبرزها رسائل فنسان فان گوخ.

ولكن اذا كانت رسائل فان گوخ اتسمت بكونها تصور العالم الداخلي للفنان وحالاته الروحية خالقة صورة خلفية لما يتسع في لوحاته من ذاتية وحزن ويأس وبعض لحظات أمل، فإن الجوهر في رسائل موتسارت يختلف كلياً، لأن رسائله تشبه شخصيته تماماً، كما ان رسائل فان غوغ تشبه شخصية صاحبها. ومن هنا نحن أمام الرسائل الموتسارتية في حضرة عالم من السخرية واللؤم وفرح الاكتشاف ووصف الآخرين والحديث عن البلدان والمجتمعات... وأيضاً في حضرة أصفى أنواع فن النميمة. ذلك حتى موتسارت كان يوجه تلك الرسائل، أكثر الأحيان، الى اثنين من غلاة المتواطئين معه: أبيه وأخته. ونعهد طبعاً كم حتى علاقة الفنان الشاب بهذين كانت كبيرة. بيد حتى هذا ليس جميع شيء. فالواقع ان قراءتنا الرسائل ستكشف لنا أيضاً كم ان موتسارت كان مبنادىً في النقد الموسيقي. فهواذا كان - لعفوية كتابته الموسيقية وجنون عبقريته في تأليفها - يستنكف عن تفسير ما يؤلف، في رسائله، حين يؤلف، فإنه لا يتوانى في الوقت نفسه عن كتابة صفحات وصفحات عن موسيقى الآخرين التي يقيّض له حتى يستمع اليها خلال جولاته وسفراته. ومن نافل القول ان موتسارت كان يكثر من كتابة رسائله، خصوصاً حينقد يكون على سفر. وهوطبعاً كان على سفر دائم، أوّلاً مع أبيه (وخلال تلك الحقبة كان يوجه معظم رسائله الى أخته) وبعد ذلك من دون أبيه (فإذا به يوجّه الى هذا الأب الجزء الأكبر من تلك الرسائل). اذاً، إذا نحن نقبنا في الرسائل الثلاثة آلاف عما يخص الموسيقى فيها... وخصوصاً الموسيقى التي عاصر موتسارت تقديمها للمرة الأولى، سنجد أنفسنا أمام سجل هائل من النقد الموسيقي. ولكن أيضاً من النقد الاجتماعي والأدبي والأخلاقي... وأحياناً السياسي.

ذلك ان موتسارت كان نهماً الى الفهم... ونهماً الى ان يقول رأيه في جميع فهم. كان - وهوأمر تشير موسيقاه اليه في جميع وضوح - يريد حتى يوصل شيئاً ما، الى إنسان ما، في جميع لحظة... ولذا كان يخط، ما جعل من كتابته، أيضاً، صورة ناطقة حية للمجتمعات التي راح يتجول فيها ويرصد أحوالها. إلى غير ذلك، مثلاً، اذا كنا نريد حتى «نتفرج» على صورة لأربعة مجتمعات، على الأقل، زارها موتسارت وتجول فيها عند الربع الأخير من القرن الثامن عشر، وهي النمسوية والانگليزية والايطالية والفرنسية، قد يحدث من الأفضل لنا، حتى نهجر دراسات المفكرين المعمقة جانباً وأن نقرأ رسائل موتسارت... فهي مباشرة، ومن دون توابل... تصف الأحداث والنساء والرجال كما هم في حياتهم، في أفكارهم، في تطلعاتهم، فهماً حتى الرسالة الأولى من هذا النوع تحمل تاريخاً محدداً هوعام 1770، عامذاك كان موتسارت في الرابعة عشرة من عمره... وكان يقوم بجولة موسيقية في ايطاليا... وخلال السنوات التالية خط مئات الرسائل، كان بعضها يحمل اشارات واضحة الى ظروف تأليفه بعض أعماله، ومنها «الجنيناتية الحسناء». ثم ينصرف «محررنا» بعد ذلك الى ربط هذا العمل بالمجتمع متناسياً ذاته تماماً. وفي عام 1773، ثمة مجموعة رسائل يمكننا حتى نصفها بأنها باريسية، ذلك ان موتسارت وصف فيها المجتمع الباريسي وصفاً أخاذاً، ولا سيما حين يتحدث عن بلاط فرساي والحفلات التي أقامها هناك علية القوم تكريماً له... والتي «كانت مملوءة بالمتحذلقين الذين لا يفقهون شيئاً مما يقولون... وخصوصاً حين يحدثونني عن الموسيقى وكل واحد منهم يريد حتى يوهمني أنه عالم علامة». وهنا في هذه الرسائل يصدر موتسارت حكماً صارماً ساخراً على معظم ما سمعه من موسيقى فرنسية، وخصوصاً تلك التي تقدم في «المعبد الملكي» على أساس أنها موسيقى «روحية» من دون «انقد يكون فيها من الروح أي قسط» وفق تعبيره. والطريف هنا هوحتى حسّ السخرية والمرح الذي طبع المجموعة الأولى من رسائله الباريسية، سرعان ما غاب حين قام برحلة ثانية الى فرنسا وبعث منها بمجموعة جديدة من الرسائل. لماذا،يا ترى؟ لأن القوم في الرحلة الثانية لم يبالوا به كما في الرحلة الأولى. من هنا امتلأت رسائله هذه المرة بالمرارة والشكوى... خصوصاً أنه عثر الناس هناك منهمكين في تتبع تفاصيل المنافسة بين الموسيقيين غلوك وبيسيني... وراحوا، حين يرون مبدعنا الشاب، يمطرونه بأسئلة حولهما! وبعد رسائل الرحلة الباريسية الثانية هناك رسائل من ميونيخ ثم من براگ... إلى غير ذلك. في النهاية نجدنا أمام رسائل وأدب رحلات... ونصوص في النقد وفي «دراسة» المجتمعات. ثم بين الحين والآخر تخدمنا الرسائل لفهم أعمال موتسارت وظروف كتابتها، ولوفي أشكال مواربة.

وفي هذا المعنى، من الواضح حتى مجمل رسائل موتسارت... وربما يتجاوز عددها، العدد الذي عثر عليه على أية حال، يمكن حتى تشكل جزءاً أساسياً من سيرة الفنان نفسه. ونعهد، طبعاً، حتى كثراً من الذين خطوا سيرة موتسارت، وجدوا في الرسائل مصدراً فائق الأهمية ولا غنى عنه. ولا سيما، حين كان يحلولموتسارت حتى يشرح لأبيه، مثلاً، خلفية كتابة هذا العمل أوذاك من أعماله، أويردّ على أبيه حين يسأله تبريراً لهذه الموسيقى هنا، أوتلك هناك. وبهذاقد يكون وولفغانع أماديوس موتسارت، قد وفر على الباحثين، الكثير من التدقيق للإحاطة بجوانب حياته القصيرة (1756 - 1791) وبجوانب عمله الغزير (مئات الأعمال خلال السنوات القليلة التي عاشها)... ولكن، طبعاً من دون حتى تجيب تلك الرسائل عن أية أسئلة، سعت وتسعى دائماً لفهم جميع الأسرار المجتمعة في عبقرية موتسارت أوابداعاته، أوحيويته، وخصوصاً بموته المبكر، الذي لا يزال سراً غامضاً، الى يومنا هذا.

المصادر

• دار الحياة

انظر أيضاً

• موتسارت