الشهباء (صحيفة)
كانت مدينة حلب في وضع أحسن وذلك بفضل رائد النهضة العربية والاجتماعية والوطنية، والمناضل الصنديد ضد العهد الحميدي الاستبدادي، ومثال العالم العامل والساعي وراء النهوض بالأمة واصلاحها وصلاحها عبد الرحمن الكواكبي (1849-1902) فآل الكواكبي أسرة حلبية مشهود لها بالفضل والفهم، ونبغ منهم جماعة كبيرة من فهماء الشرع ورجال الادارة ومنهم عبد الرحمن. كان أبوه أحمد الكواكبي أحد مدرسي الجامع الأموي في دمشق. تلقى علومه الابتدائية في المدرسة الكواكبية احدى مآثر جدوده. أتقن العربية والهجرية وبعض الفارسية. ووقف على العلوم الرياضية والطبيعية، وتبحر في تاريخ الأدب والثقافة والأدب التنويري. كان ميالا منذ حداثته الى العمل الثقافي والنشاط الاجتماعي. ولج في خدمة الحكومة باعتبار نفسه من مواليد 1849 (وهوفي الأصل سنة 1854- ومن هنا الاختلاف في تحديد تاريخ ميلاده) فتقلب في عدة مناصب فهمية وادارية وحقوقية، واشتغل في تحرير جريدة "الفرات" الرسمية. ولكنه عجز عن التعبير عن أفكاره الوطنية وآرائه الاصلاحية في الجريدة الرسمية، فتنازل عن العمل فيها ليؤسس جريدته "الشهبا".
صحيفة "الشهباء" (لقب مدينة حلب – المؤلف) ثاني جريدة في المدينة تأسست حسب الطرزي – في غرة آيار (مايو) 1877، ووفقا لمحمد دكروب سنة 1878. كان صاحب امتيازها هاشم العطار وطبعت في "المطبعة العزيزية. تواقت ظهورها مع الحرب الروسية الهجرية فكانت تنشر أخبارها مع سائر الحوادث الداخلية والخارجية بروح انتقادية، مما نادى تام باشا والي حلب الى تعطيلها منذ العدد الثاني. وبعد وقت قصير عاودت الظهور، فاستلم ادارة تحريرها الكواكبي وميخائل أنطون صنطق (1824-1885) الشاعر والفيلسوف الذائع الصيت في الأوساط المسيحية الحلبية. ولكن المحررين الجديدين بدوأ اكثر جرأة وإقداما من هاشم العطار في عين الوالي "المفطوم على عداوة الحرية" – كما يقول الكواكبي – عملقها مرتين، وأمر بحجز المطبعة في التعطيل الثالث، وتوقفت الجريدة عن الصدور نهائيا بعد العدد الخامس عشر. ومن المعروف حتى الكواكبي اشتكاه الى المحكمة الابتدائية التي برأت ساحة الجريدة، لكن كمال باشا لم يصدق طبعا على حكم البراءة.
وفي 25 تموز (يوليو) 1879 أنشأ الكواكبي بدلا من الشهباء صحيفة أسبوعية أطلق عليها اسم "الاعتدال" فكانت اسمها على مسمى، وكان نصفها مطبوعا باللغة العربية والآخر بالهجرية تعميما لفوائدها بين سكان حلب الذين يغلب فيهم العنصر الهجري على سواه. ومما اتى في الموضوعة الافتتاحية ما يلي: "على حتى الاعتدال هي الشهباء من جميع حيثية" وقد أخذت على عاتقها "نشر حسنات الاجراءات واعلان سيئات المأمورين وعرض احتياجات البلاد الى أولي الأمر، وكل ما يقتضيه تهذيب الأخلاق وتوسيع دائرة المعارف من أبحاث فهمية وسياسية وغيرها".
والقليل الذي نعهده عن جريدة "الاعتدال" يكفي لاعطاء صورة واضحة المعالم عن العهد الحميدي الجائر والأجواء الخانقة السائدة يومذاك. فقد تعرضت الجريدة لملاحقات ومضايقات الحكومة الدائمة، فانطفأ سراج حياتها. لأن صاحبها المشهور بحرية الضمير وحب الوطن "كان ينبه الحكومة الى مواضع الخلل بكتاباته الشائقة وارشاداته الصائبة" كما نطق الطرزي.
وبعد حرماته من جريدة "الاعتدال"، تولى الكواكبي – بوصفه نقيبا للأشراف - رئاسة المحكمة الشرعية، وأصبح عضوا في محكمة التجارة لولاية حلب، فرئيسا لغرفة التجارة، ومديرا للبنك الزراعي. غير حتى حبه للاصلاح وحرية القول حال دون استمراره في المناصب الحكومية الرفيعة، فاستنطق عنها عام 1868. وانكب عبد الرحمن الكواكبي لجمع المادة اللازمة لنشر كتاب يعري فيه مظالم السلطات الهجرية، ويدافع فيه عن المظلومين والمستضعفين ضد الموظفين والولاة الأتراك. وفي العام ذاته سجن الكواكبي بتهمة ملفقة حول الاشتراك في محاولة اغتيال تام باشا الوالي العثماني.
وانطلقت حملة جماهيرية لاطلاق سراحه، فأفرج عنه بعد أيام. وعزلت السلطات الهجرية الوالي تام باشا، واضطر الوالي الجديد الى تعيين الكواكبي رئيسا لبلدية حلب. وتابع الكواكبي نضاله دفاعا عن الضعفاء من العرب والأتراك معا حتى سماه الحلبيون "أبا الضعفاء" . وفي أواخر التسعينيات اصطدم الكواكبي مجددا بالوالي الهجري عارف باشا الذي اشتهر باستبداده وحبه للرشوة، والذي وجه اليه تهمة رئاسة جمعية سرية معادية للدولة والإسلام، فضلا عن الاتصال بدولة أجنبية. وسجن الكواكبي من جديد، وحوكم وحكم عليه بالاعدام. بيد حتى محكمة الاستئناف في بيروت لم تأبه لخطورة شهادات الزور المتقدمة بقدر ما راعت قضية الجماهير الشعبية في حلب. ولذلك أصدرت حكما ببراءته. ولكن جواسيس السلطان كانوا على فهم بالعلاقة الوثيقة بين الكواكبي من جهة وبين أبناء الجالية الايطالية في حلب أعضاء جمعية "ايطالية الفتاة" تلك العلاقة التي جعلت بعض الكتاب العرب يجزمون بأن الرائد العربي البارز كان عضوا في أحد محافل الكربوناري.
وبعد حتى تابعت السلطات الهجرية التضييق عليه ، هاجر الكواكبي سرا من بيروت الى مصر سنة 1899 (أوعلى أبعد تقدير 1900)، ثم خرج منها سائحا فطاف جزيرة العرب وتحول الى الهند والصومال والحبشة وغيرها. وبعد عودته الى مصر عام 1902، فاجأته المنية، بعد حتى كان جواسيس السلطان عبد الحميد قد دسوا له السم في فنجان القهوة. كما تؤكد المراجع العربية.
ان فرضية اغتيال عبد الرحمن الكواكبي في الثامنة والأربعين من عمره لم تولد من فراغ، فهذا ما تؤكده الحقائق التاريخية عن الاغتيالات المماثلة التي سقطت ابان العهد الحميدي (مثال اغتيال رزق الله حسون وغيره). هناك اعتبار بالغ الدلالة وهوعدم وجود أية مخطوطات للكواكبي في غرفته، الأمر الذي يدلل ولا شك على زيارة أناس غرباء لكن عملاء السلطان وجواسيسه الذين سطوا على كتاباته ومخلفاته (وهذا ما وقع ايضا مع أديب اسحاق كما أسلفنا). ولعل إنسان الكواكبي كمناضل حر قولا وعملا خير برهان على صحة هذا الافتراض، اذ كان قد ألف خطا كثيرة لم ينشر منها في حياته سوى "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" و"أم القرى" وهما دعوة جريئة الى الحرية والاصلاح. ولكن لأنهما قد نشرا في مطلع القرن العشرين ولهما علاقة مباشرة بالنهضة العربية القومية السياسية، ارتأينا تحليل الفكر الكواكبي الى كتابنا القادم.
ولكن، تظل حدثة لابد منها وهي حتى مدينة حلب بعد جرمانوس فرحات تبوأت مركزا لائقا بوصفها مسقط رأس عبد الرحمن الكواكبي أبرز رواد النهضة العربية المسلمين، والراية الاسلامية الأولى في حركة التنوير العربي، وبوصفها مسرحا لنشاطه فكان فيها قطبا عظيما من أقطاب الرأي ومن الأعلام البارزين في الشرقة عامة. بينما كانت حلب عينها غارقة في سبات من الجهل المطبق بعظمة الأعمال الجليلة التي قام بها ابنها البار وبالأفكار السامية التي أشاعها – كما يقول إيلي خدوري. وكمصداق لقولنا نشير الى حتى حلب لم تشهد أي تحرك فكري – ثقافي يستحق الذكر – اللهم سوى "جمعية النشأة التهذيبية" التي تأسست سنة 1907، وظلت مستترة حتى اعلان الدستور وقيام انقلاب هجرية الفتاة.
المصادر
- يغيا نجاريان (1986). "الجمعية الفهمية السورية". . يريڤان، أرمنيا: أكاديمية العلوم الأرمنية.