جروبي

جروپي في ميدان سليمان باشا بوسط القاهرة.

«بترة جاتوه يتناثر سكرها في كتاب اسمه التاريخ». هذه العبارة يمكن حتى تلخص، أوعلى الأقل تعطي صورة حية عن «جروبي» أشهر محلات الحلوى والآيس كريم في مصر. الآلاف من الشباب في مصر الآن لا يرى في جروبي أكثر من مقهى عتيق وسط البلد، يقدم الشاي والجاتوه في أجواء كلاسيكية مملة، وكأنه مشهد معاد من فيلم أبيض وأسود قديم، أيام عبد الوهاب وراقية إبراهيم التي كانت (تأكل الجلاس وتدوب في قلوب الناس).

والحقيقة حتى جروبي أكبر بكثير من مجرد مقهى شهير بالقاهرة، أوماركة مسجلة في صناعة الحلوى والجلاس، إنه تاريخ طويل للفن والفكر والعمل السياسي، وسيرة رائعة بطعم الشوكولاته، وذكريات جميلة لأيام تلاشت.. وكأنها الآيس كريم! لكن من أدخل الآيس كريم لمصر ومنطقة الشرق الأوسط؟

جروبي هوالإجابة، والبداية وحدثة السر.. صانع الحلويات السويسري جياكوموگروپي، هوأول من أدخل الآيس كريم لمصر، حين اتى إلى القاهرة عام 1889، وأسس بها أربعة محلات، أولها في شارع عدلي، وأشهرها فرع طلعت حرب، الذي يشغل حتى اليوم مسقطه المميز بميدان سليمان باشا في مبنى فخم ضخم من طراز الباروك، ويعتبر من كنوز مصر المعمارية في عصرها الحديث. أحمد يسرى مدير جروبي الحالي، يقول إذا لفرع سليمان باشا بالذات مدخلا جانبيا خاصا لا يعهده أحد، وكان مخصصا في الماضي لدخول الباشاوات والوزراء وكبار الشخصيات من المصريين والأجانب، الذين كانوا يترددون على جروبي في فترة الأربعينات والخمسينات، ويتناولون فيه غداءهم، أما عن مدخل المحل المكسوبالفسيفساء الملونة والرسوم المبهجة، فلا يخلوهوالآخر من ذكرى وحكاية، مفتاحها حدثة (قفير النحل) التي تجدها مكتوبة بخط واضح تحت قدميك وأنت تخطوخطواتك الأولى بالمكان، البعض يظن أنها تميمة تجلب الحظ السعيد لعتبة المحل وزبائنه، لكن يسرى مدير جروبي، يقول إذا الحدثة بمعنى خلية النحل، وكان ذلك رمزا للحركة الزائدة في المكان، ليس فقط بسبب الزبائن والضيوف، ولكن لوجود بدروم للمحل فيه مئات العمال والطباخون في حالة عمل وتدريب لا تكاد تتوقف، من كثرة البيع والطلب على الحفلات والولائم.

أمين سعيد، رجل عجوز، ملامحه وشعره الأبيض كالثلج ينبئ بأنه بلغ الستين عاما أويزيد، منها أربعون عاما، قضاها متصلة في جروبي، يبيع الشوكولاته والفونضام والمارون جلاسيه، الذي لا يعهد قدره أوطعمه غير زبائن جروبي (الهاي) على حد تعبير عم أمين، وقد أكمل مبتسما: «الست أم كلثوم كانت تأتى وتتناول (افطارها) هنا في جروبي، وتشتري منى الجبنة والشوكولاته، والست فاتن حمامة أيضا من زبائن المحل القدامى، والسيدة جيهان السادات كانت تأتى لجروبي عدلي وتشترى الشوكولاته بنفسها، وأولاد السادات كلهم كانوا حتى وقت قريب يأتون، ويشترون مني الجاتوه».

ثم يتابع بوجه بشوش: «مرتبي بدأ بربع جنيه والآن صار حوالي 400 جنيه، ليس كثيرا لكن، الحمد لله زي الفل، البقشيش كان زمان قرش صاغ دلوقت فيه زبون بيدفع بقشيش جنيه وفيه بيدفع 20 جنيها، أنا قضيت عمري كله في جروبي ولا أفكر أبدا في حتى أهجره، أوأمضى لمكان آخر». الذكريات مثل عم أمين، لا تفكر أبدا في حتى تهجر جروبي وتمضى لمكان آخر، هنا كانت تجلس أسمهان، وعلى هذه المائدة كان يجلس تام الشناوي، يقرأ جرائد الصباح ويخط الشعر ويشرب عصيره المفضل. الفنان أحمد رمزي كان يتردد على جروبي بصفة شبه يومية مع أصدقائه، وفي مرة كان مع احد زملائه في الدراسة وشاركهما اللقاء مخرج شاب اسمه يوسف شاهين، فحدثت الصدفة التي قدمت للسينما العربية والعالمية نجم شهير هوعمر الشريف (زميل رمزي منذ الدراسة الثانوية) الذي اكتشفه شاهين وأعطاه بطولة مطلقة في أول أفلامه «صراع في الوادي».

حتى عيزرا وايزمان – الذي صار فيما بعد رئيسا لإسرائيل ـ كان يتناول إفطاره يوميا في جروبي طوال فترة وجوده في مصر كجندي يهودي بالجيش الانجليزي! وفي كتابه «الإخوان والعنف» يذكر المحرر عامر شامخ، ما يفيد بأن جروبي كان ملتقى الصفوة ونجوم المجتمع، بالإضافة لكونه المقهى المفضل لأبناء الطبقة الراقية من المصريين والأجانب المقيمين بالقاهرة، لذا خطط الإخوان المسلمون لنسفه مع الجامعة والسكة الحديد، في عملية تخريبية، تم إحباطها في أكتوبر 1954. وعلى قدر أهمية جروبي وزبائنه، يدلنا حادث آخر خطير، تكشفت تفاصيله عام 1960 ـ عهد عبد الناصر ـ حين سقطت شبكة جواسيس تعمل لصلح الموساد الإسرائيلي، وهوما عهد وقتها بعملية سمير الإسكندراني، الذي أسقط بعشرة جواسيس من العيار الثقيل، كان أحدهم جورج استاماتيوأحد عمال جروبي! إلى غير ذلك يظهر جليا حتى جروبي لم يكن مجرد مقهى بقدر ما رمز عميق الدلالة والتأثير في الحياة المصرية، ومشروع ثقافي شديد الوجاهة، له تنطقيد أرستقراطية نبيلة، عكست صورة النهضة في تلك الفترة من تاريخ مصر. في حديقته الخلفية الواسعة أقيمت الحفلات الراسيرة والعروض السينمائية الجديدة، وفيه ظهرت فرق الموسيقى الأوروبية، وعلى يده عهدت مصر أنواعا جديدة من العصائر والمربى والجبن والحلوى والكريم شانتيه، وأجود أنواع الشوكولاته والمارون جلاسيه، لدرجة حتى بنات الملك شارل ملك انجلترا، أعجبن غاية الإعجاب بمذاق الشوكولاته التي أكلنها في قصر الملك فاروق، ولم تكن في بلادهم شوكولاته تماثلها على ما يبدو، فأوفد فاروق إليهن هدية، بعد عودتهن إلى لندن، تعبير عن 100 كيلوشوكولاته من خلق جروبي! يسأل الناس الآن ما الذي وقع لجروبي،يا ترى؟ صفحات الجرائد التي لا تذكر اسم جروبي إلا ومعه خبر عن مظاهرة أووقفة احتجاج أونداء لمقاطعته، ومحل الأميركين معه، سخطا على صاحبه عبد العظيم لقمة أحد قيادات الإخوان الذي اقتنى المحلات من أحفاد جروبي، ويتهمه الرأي العام المصري بتخريب جروبي والقضاء متعمدا على دوره التنويري المتحضر، بينما يتهمه المتظاهرون والمقاطعون باستغلال العمال في مصانعه، وتعريضهم للأمراض الخبيثة والموت، من دون تأمين أوحماية، خاصة العاملين منهم في إنتاج الأسقف المعدنية (الأسبستوس) بالغة الضرر للصحة والبيئة.

ويذكر الأستاذ صلاح علي، مدير سابق لمحلات جروبي، أنه بعد موت عبد العظيم لقمة، أعرب أولاده أكثر من مرة عن رغبتهم في إصلاح وتطوير المحلات، وإعادة جروبي لما كان عليه من بريق ورونق يليق بمكانته التاريخية ومسماه المعروف، لكنها كانت دائما محاولات فاشلة لا تتسم بالجدية.

رغم ذلك تقول هبة سعد الدين – المذيعة اللامعة بإذاعة الشرق الأوسط، إنها لا تزال تحب جروبي وتتردد عليه، لأنه يذكرها بطفولتها أيام كانت تأتى مع والديها لتتناول الآيس كريم والحلوى. ويعلق د. نبيل السيد، 53 سنة، أنه كان في شبابه المبكر، يدخر من دخله المحدود ويأتي خصيصا لتناول القهوة أوالكاكاوفي جروبي بالذات، ليشعر بالفخر يكافئ نفسه، ويتفاءل بانه سيكون في المستقبل رجلا مهما من النخبة والأثرياء، مثلما الزبائن الذين كان يراهم في جروبي حينها.

لكن المفارقة انه حين صار عملا من الأغنياء والمشاهير في مجاله، لم يعد جروبي يعنى له اي شيء وسقط من ذاكرته أساسا. ما بقي من جروبي شيء واحد لم تغيره الأيام والسنوات الطويلة، وهومطبخ جروبي. مطبخ واسع رخامي أبيض، فيه ثلاجة ضخمة وكأنها حجرة صغيرة مستقلة، تحفظ ألبان المهلبية وتورتات الآيس كريم، وحلوى الكراميل العسلية، والقشدة اللباني عالية الهجريز، والمكسرات والفواكه المسكرة، وأبوفروة المستورد المغموس في الشربات، المعروف باسم المارون جلاسيه، الكيلومنه بـ 650 جنيها. الشيف محمود زكى تحدث وهومنهمك في عمله بالبسترة، مؤكدا حتى آيس كريم جروبي لم يزل بلا منافس، فهم الوحيدون الذين يعتمدون حتى اليوم على اللبن الـ7 بنط (عالي الدسم) والطهاة في جروبي تحديدا ذوورصيد لا يستهان به من المهارة وسنوات الخبرة، خاصة في إعداد الديك الرومي واللحوم والمحاشى والحلويات، وهوالسبب الرئيسي الذي يجعل معظم وزراء مصر وبعض كبار المسؤولين ومشاهير الفنانين لا يرتضون بديلا عن جروبي حتى الآن، عندما يقيمون الولائم أوالحفلات، خاصة في شهر رمضان الذيقد يكون فيه الحجز مقدما، ويعمل المطبخ خلاله ورديات تتجاوز أحيانا 12 ساعة يوميا. بقي من جروبي أيضا مشاهد لا تنسى، على شريط السينما، وأفلام شهيرة مثل «إشاعة حب» لعمر الشريف وسعاد حسني، أو«أين عمري» لماجدة الصباحي، أو«حلاق السيدات» لعبد السلام النابلسي. وغيرها من الأفلام التي لا تخلومن محادثة يقول فيه البطل: (هاستناكي في جروبي الساعة خامسة.. أوعى ما تجيش)، أوتقول فيه سيدة القصر بكل زهو: تفضلوا .. تفضلوا .. البوفيه كله من جروبي!

المصادر

  • جيهان الغرباوي (2008-08-28). "«جروبي» بترة جاتوه.. في كتاب التاريخ!". صحيفة الشرق الأوسط.
تاريخ النشر: 2020-06-04 11:38:05
التصنيفات: محال القاهرة, ميدان طلعت حرب

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

مجلس المنافسة يفرض عقوبتين ماليتين

المصدر: أخبارنا المغربية - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-10-01 00:23:49
مستوى الصحة: 74% الأهمية: 71%

«الحرس» الإيراني يعلن مقتل قائد استخباراته في محافظة بلوشستان

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-10-01 00:23:16
مستوى الصحة: 88% الأهمية: 85%

الفيتو يشلّ قدرة مجلس الأمن على التنديد بقرارات روسيا

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-10-01 00:23:25
مستوى الصحة: 77% الأهمية: 91%

صدور العدد الأول من مجلة «سيقلس بوست» الثقافية الفكرية

المصدر: صحيفة التغيير - السودان التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-10-01 00:22:46
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 61%

الإعلان عن انقلاب عسكري جديد ببوركينا فاسو

المصدر: أخبارنا المغربية - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-10-01 00:23:45
مستوى الصحة: 73% الأهمية: 72%

رسميا.. "كاف" يسحب تنظيم كأس إفريقيا من غينيا

المصدر: أخبارنا المغربية - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-10-01 00:23:48
مستوى الصحة: 66% الأهمية: 70%

لجنة المعلمين السودانيين تكشف عن خيارات بشأن تكلفة المعيشة والأجور

المصدر: صحيفة التغيير - السودان التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-10-01 00:22:49
مستوى الصحة: 46% الأهمية: 60%

أمريكا.. إعلان ولاية فرجينيا منطقة كوارث

المصدر: اليوم - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-10-01 00:24:40
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 64%

البروفيسور علي عبد القادر: رحيل مُفكر مُلْهِم وصاحب عقل محايد «4- 4»

المصدر: صحيفة التغيير - السودان التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-10-01 00:22:47
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 69%

خريف اجتماعي ساخن في فرنسا والتحضير لتحركات إضافية

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-10-01 00:23:22
مستوى الصحة: 75% الأهمية: 85%

تجديد العضويات السعودية في «الأولمبية الدولية» - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-10-01 00:23:40
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 58%

انطلاق منافسات كأس الاتحاد السعودي للهجن.. غداً - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2022-10-01 00:23:41
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 58%

بوركينا فاسو: عسكريون يقيلون رئيس المجلس العسكري الحاكم ويغلقون الحدود

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-10-01 00:23:18
مستوى الصحة: 78% الأهمية: 96%

روسيا تستخدم الفيتو ضد قرار مجلس الأمن حول عمليات الضم

المصدر: ألشرق الأوسط - السعودية التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-10-01 00:23:24
مستوى الصحة: 88% الأهمية: 89%

رئيس كاف يعلن سحب تنظيم كأس أمم إفريقيا 2025 من غينيا

المصدر: آخر ساعة - الجزائر التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-10-01 00:24:15
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 61%

إرث 10 قرون من الحضارات في معرض الكتاب بالرياض السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2022-10-01 00:23:46
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 68%

أسرار خاصة في ذكرى علامة الجزيرة حمد الجاسر السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2022-10-01 00:23:45
مستوى الصحة: 52% الأهمية: 62%

آخر تطورات فاجعة "الشراب الفاسد" التي أنهت حياة 20 شخصا بالقصر الكبير

المصدر: أخبارنا المغربية - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-10-01 00:23:53
مستوى الصحة: 61% الأهمية: 70%

«الصحة العالمية»: «26» دولة أبلغت هذا العام عن تفشي الكوليرا

المصدر: صحيفة التغيير - السودان التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2022-10-01 00:22:48
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 66%

pendik escort
betticket istanbulbahis zbahis
1xbetm.info betticketbet.com trwintr.com trbettr.info betkom
Turbanli Porno lezbiyen porno
deneme bonusu
levant casino levant casino levant casino levant casino levant casino levant casino
bodrum escort
deneme bonusu veren siteler
Bedava bonus casino siteleri ladesbet
deneme bonusu veren siteler
deneme bonusu
deneme bonusu
sex ki sexy
deneme bonusu
kargabet
تحميل تطبيق المنصة العربية