الأصول الفكرية لدولة المرابطين

عودة للموسوعة

الأصول الفكرية لدولة المرابطين

المرابطين

مقدمة

يرمي هذا العمل إلى استبيان ملامح القاعدة الفكرية التي على أساسها قامت دعوة المرابطين في صحراء صنهاجة خلال القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي. وبذلك فإن هذه المراجعة تندرج في سياق المساهمة في إحياء تاريخ الحقبة المرابطية، الذي لا يزال بحاجة إلى دراسات معمقة تقدم معطياته بوجهها الحقيقي، لا سيما وأن بعض دارسي هذه الحقبة قد حاولوا إبقاء التاريخ الثقافي المرابطي وشواهده غميسة أوهامشية. ومن ذلك زعمهم حتى هؤلاء الظواعن الصحراويين قد قضوا على رونق الحضارة الزاهر في الأندلس وأعدموا الذِّمَاء الباقي من الثقافة في المغرب([1]). وهومردود منطقياً وتاريخياً.


لكن هناك أعمالاً لها قيمتها التي لا تنكر، أنجزت حول المرابطين، لكنها مع ما تحوزه من دقة معهدية، لم تتناول بشمولية دور العامل الفكري في تاريخ الحركة. وقد يحدث هذا القصور راجعاً إلى اعتبارات منهجية بحتة فرضت نفسها على مُنْجزي تلك الأعمال، كضرورة هجريزهم على قضايا بعينها([2])، أولاندراج إسهاماتهم ضمن حقول أخرى غير تاريخ الذهنيات([3]).*

وبالرغم من ذلك فإن هناك قراءات بارزة حاولت وضع الحركة في سياقها الفكري - الإصلاحي، حيث لفتت الانتباه إلى منْزلة الحركة المرابطية من المد السني الأشعري الذي ساد المشرق إبان صعود الحركة، كما أكدت على دور قادة هذا المدّ في التهيئة للدعوة المرابطية، معتبرة بذلك عبد الله بن ياسين وسلفه من الفقهاء، جزءاً من شبكة النادىة السنيين العباسيين الذين حاولوا الالتفاف حول الحركات الباطنية وذلك بتطويقها من الشرق والغرب الإسلاميين.

ونحن نقبل هذا الطرح في خطوطه العريضة لكنه يظل مثغوراً ما لم يُفهم الدور الذي قامت به المدرسة الأشعرية في التمهيد لعملية توحيدية حاسمة كتلك التي قام بها ابن ياسين وأمدها ومهّد لها فقهاء المالكية في الغرب الإسلامي، دون حتى يعني ذلك أي حضور بارز للأشعرية في التّديُّن المرابطي.

والمعروف نشر المرابطين للإسلام السني في الصحراء والمناطق التي افتتحوها، لكن المتفحص لهذه الوحدة العقدية يلاحظ غياب دور واضح فيها للأشعرية، رغم حتى هذه الأخيرة كانت من مشمولات الخطاب الفكري المرابطي، من حيث وجود الأفكار الأشعرية لدى كبار الفهماء المشارقة وبعض المغاربة ممن كانوا شيوخاً لسلاسل فقهاء المشروع المرابطي. وكذلك بالنظر إلى مقتضيات الظرف التاريخي التي جعلت الحركة المرابطية جزءاً من حركة المدّ السني المعنية. ومن هنا ينبغي التساؤل عما إذا كان المحمول السياسي للأشعرية ممثلاً في الشرعية العباسية هووحده الذي انتقل إلى الفضاء الفكري الممهّد للحركة،يا ترى؟ وما هي الظرفية المركبة التي اكتنفت علاقة الأشعرية بالفقهاء في المغرب الإسلامي ثم الإسلام المرابطي.*

وهل يتعلق الأمر بكون الدعوة المرابطية لم تكن أبداً إلا مشروعاً مالكياً خاصاً بهموم الفقهاء في المغرب الأقصى؟ أم حتى حقل الدعوة المرابطية وخصوصيته كانت هي العوامل الحاسمة في عملية الاختيارات الفكرية الكبرى للحركة المرابطية؟*

إنه للإجابة عن مختلف هذه الأسئلة، يقتضي الأمر الحديث عن طبيعة الإسلام الصنهاجي بوصفه المجال الذي غيرت فيه دعوة الحق ومنه انطلقت فاتحة وموحدة.



خصوصية حقل الدعوة المرابطية

يبدوحتى صنهاجة الصحراء قد تعهدوا على الإسلام لأول مرة بعد اصطدامهم بحملات الفتح العربي، وهوالاصطدام الذي مس بشكل خاص المجموعات الصنهاجية الأكثر تغلغلاً في السوس الأقصى([4])، إلا حتى هذه العملية لم تؤدّ إلى أسلمة المغزوِّين لأن المصادر تحدثت بعد ذلك عن سرايا عربية ظلت تنطلق من السوس في اتجاه الصحراء وافترض أنها وصلت إلى حدود نهر السنغال([5]). والمفهوم حتى هذه العمليات الحربية الخاطفة كانت موجهة ضد الاتحاد الصنهاجي الذي يقوده أمراء عشيرة "أنْبيتا" اللمتونية، والذي استمر مسيطراً على أودغست 306 ه/ 918 م([6])، حيث أنه بعد انفراط هذا التحالف لم تشر المصادر إلى حملات

أخرى على المنطقة. فهل يتعلق الأمر بحصول سكان الصحراء آنذاك على درجة من الأسلمة كافية لحمايتهم من بطش الفاتحين؟*

نحسب حتى الأمر كان كذلك وإلا لما ذكر الإخباريون حتى صنهاجة في تلك الفترة كانوا على السنة مجاهدون للسودان، وأن رئيس حلفهم عبد الله بن تفاوت كان «من أهل الفضل والدين والحج والجهاد»([7]).* إلا حتى هذا الإسلام «السني» و«الجهاد» ضد مشركي السودان قد لا يعني تعميق الأسلمة بين الصنهاجيين بدليل سطحية إسلامهم التي كشف عنها بدءاً أمر المرابطين. بل إذا قصارى ما يمكن فهمه من تلك «السنية» هوتميز الإسلام الصنهاجي على ما يجاوره من الدوائر الدينية والممضىية المنتشرة آنذاك حول الصحراء، ومن هنا لم ينسب الصنهاجيون إلى أي من تلك الفرق والممضى، وبذا لم يصنفوا ضمن الكتابات التي أشارت إليهم إلا في عداد أهل السنة([8]).* ولكن هل كانت هذه الخصوصية التي اتسم بها إسلام صنهاجة الأول، عاملاً حاسماً من بين المؤثرات الهامة الأخرى، في الاختيارات الفكرية للحركة المرابطية،يا ترى؟ أوبتعبير آخر هل إذا سنية المرابطين كانت مرتبطة بحقل الدعوة الأول،يا ترى؟ بحيث ما كان لهذا الحقل حتى يتقبل أسلمة لا تستجيب لخصوصيته التاريخية "العقدية" التي ميزته عن الدوائر الممضىية المحيطة به؟*

إن الباحثين([9]) يربطون بين المشروع المرابطي وعملية المد السني التي بدأها الأشاعرة على مستوى المشرق، أي أنهم يعتبرون الحركة المرابطية عملية تطويق من الغرب للممضى الإسماعيلي استكمالاً للدور الذي قام به السلاجقة شرقاً، وبالتالي فإن رحلة زعيم صنهاجة الصحراء يحيى بن إبراهيم الكدالي إلى الحج كانت قد تأثرت بهذا المد السني، خصوصاً وأن موسم الحج غالباً ماقد يكون مرتعاً خصباً للفرق الإسلامية التي تتلقف فيه حجاج الآفاق لتنشر بينهم مبادئها وآرائها([10]). فمن غير المستبعد حتىقد يكون النادىة السنيون (في مكة،يا ترى؟ في المدينة،يا ترى؟ في القيروان؟) هم الذين بادروا بالاتصال بيحيى بن إبراهيم وعرضوا عليه مرشداً ومربياً ليعهد قومه على شؤون الإسلام وأحكامه([11])، أولعلهم أحالوا الأمير الصنهاجي إلى قادة المالكية في القيروان لقربهم من بلاده نسبياً، ولدرايتهم بشؤون الغرب الإسلامي([12])، ومن هنا يصبح داعنة المرابطين الأول عبد الله بن ياسين وخلفاؤه وأشياخهم مندرجين في سلسلة من النادىة السنيين العباسيين([13]).* إننا نقبل مثل هذه الطروحات لكنها مع ذلك تظل قائمة ما لم يفهم الدور الذي لعبته الأشعرية في التمهيد للحركة المرابطية أوبمعنى آخر ما لم تفهم صلة الأشاعرة بالمشرق بشبكة الفقهاء المالكيين التي نظرت لحركة المرابطين، أوبمعنى آخر أي بحدثة واحدة قياس منْزِلة العقد الأشعري من المشروع الفكري المرابطي عموماً.*


البعد الأشعري للحركة المرابطية

أولاً يجب التذكير بموقف المالكية عموماً من فهم الكلام ومن العقائد التي تستخدمه لإكمال «معقولية» أنساقها الفكرية.لقد كانت العقيدة السلفية التي يرأس القائلين بها الإمام مالك وباقي الأئمة الأربعة «عقيدة خالية من أساليب فهم الكلام وأهله، تقرر العقائد بدءاً ولا تعالجها عقلاً»([14]). أما بناء الخطاب «الكلامي» الأشعري من عقيدة أهل السنة،التي أصبحت تجمع بين عقيدة أهل السلف وآراء الأشاعرة، فقد تَمّ مع أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري الذي كان متحدثاً معتزلياً ثم تحول إلى عقيدة السلف ولكنه حمل معه آراءه الكلامية فحاول بناء عقد سني وسطي بين رأي أهل الحديث والأثر "السلف" النادىية إلى التزام حرفية النصوص وتجنب استعمال العقل، وموقف الاعتزال الداعي إلى جعل العقل رائداً مما جعل ممضى الأشعري على حد رأي الباحثين([15]) يعكس تيارين فكريين متعارضين ظلاً متعايشين في ممضىه. ومن هنا إبهامية الممضى الأشعري وازدواجيته، ومن هنا أيضاً ذلك الموقف الحذر إذا لم نقل المعارض الذي يوجبه به هذا العقد في الأوساط السنية، فابن الجوزي، وهومن الحنابلة المتأخرين مضى إلى اعتبار الأشعري أحد المسؤولين عن «تلبيس العقائد» حيث يقول: «إن الأشعري ظل على ممضى المعتزلة زمناً طويلاً ثم هجره، وأتى بمنطقة خبط بها عقائد الناس»([16])، وهذا ما يفسر الخصومة الشهيرة بين الحنابلة والأشاعرة في بغداد. أما المالكيون فقد كان موقفهم متشدداً في رفض فهم الكلام أسوة بالإمام مالك الذي حارب فهم الكلام بشدة، خصوصاً في مسألة الصفات وعلاقتها بالذات. كما كان يرفض الرد العقلي على البدع، لأنه في رأيه رد بدعة ببدعة. وتظهر سلفية عقيدة مالك في أنه كان([17]) يغلب التنْزِيه في الصفات، ويأمر بأن بفهم الآيات المتحدثة عن الصفات (كما اتىت) لا بمعنى إجرائها على ظاهر النص فحسب، بل ويشترط حتى لا يؤدي ذلك إلى مماثلة الله بالمخلوقين([18])، إلا حتى النفس الأشعري مع ذلك قد تسرب إلى آراء وكتابات فقهاء المالكية بالقيروان خصوصاً إبان ظهور شيخ الأشاعرة ببغداد أبي بكر الباقلاني (ت. 404 ه/ 1013 م) ([19]) الذي انتشرت آراؤه وخطه وتوزع أتباعه في أمصار الإسلام، وكان من أعظم المتصلين به من بين المالكيين في القيروان المنظر الأول للمشروع المرابطي الفقيه أبوعمران الفاسي (ت. 420 ه/ 1028 م) فهل انتقلت الأشعرية عبر هذا الفقيه إلى فقهاء المشروع المرابطي،يا ترى؟ أم إذا هناك خصوصية في مستوى التلقي المعهدي بين المعنيين إلى جانب عوامل خاصة بحقل الدعوة الأول حالت دون حضور قوي للأشعرية في الإسلام المرابطي في الصحراء والمغرب؟


خصوصية التلقي المعهدي

لقد اعتمدت النادىية السنية على الأشعرية كخطاب سني وسطي، إذ لم يكن لعقيدة السلف حتى تقاوم، في نظر أصحاب هذا المشروع، الحركات الباطنية وفرق الزندقة المتشعبة بالموروث العقلاني الفلسفي والآراء والأفكار الغامضة لحضارة ما قبل الإسلام. غير حتى الأشاعرة قد عهدوا نهضتهم البارزة بشكل خاص على يد القاضي الباقلاني الذي كان ظهوره بالغ الحسن الأشعري فتصدر للإمامة في طريقته فهذبها ووضع المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة والأنظار([20]) فضلاً عن أنه كان مالكي الممضى بل إنه قد «انتهت إليه رئاسة المالكية في وقته»([21])، وقد نشر الباقلاني تلاميذه في الأقطار من أجل الدفاع عن الأشعرية([22])، فهل انتقلت الأشعرية ومحمولها السياسي إلى فكر الفاسي فنقلها هوبدوره إلى أتباعه،يا ترى؟ إذا الفاسي كان يعلن التزامه بالشرعية العباسية ويدافع عنه([23])، ولعل هذا هوما انتقل إليه من المحمول السياسي لذلك التأثير الأشعري، أما عن علاقته بالأشعرية فإن الفاسي كان أولاً قد شد الرحال من بلده فاس إلى القيروان وبها تفقه بأبي الحسن القابسي([24])، ورغم حتى القابسي لم يكن تلميذاً للباقلاني لكنه من طبقته حيث توفيا في نفس السنة (3-404) واشهجرا في بعض التلاميذ. لكن الذي لا ريب فيه هوحتى القابسي قد اطلع على أشعرية الباقلاني وأفاد منها، فقد كانت له رحلة إلى المشرق([25])، غير أنه من الواضح حتى القابسي لم يكن يلقن تلاميذه غير آراء مالك في العقيدة والتي هي في الأساس «عقيدة أهل السلف»([26])، كما لم يؤثر عن صنهاجة الصحراء أنهم اتصلوا بهذا الفقيه عبر استفتاءات وأسئلة موجهة إليه تماثل تلك التي كانت تصله من تجار القيروان والغرب الإسلامي ممن كانوا ينتشرون في الصحراء، خصوصاً في مدن تادمكه وأوداغست([27]). ومن هنا لم يتعهد أبوعمران على الأشعرية من خلال القابسي ولكنه إذا كان قد عهدها فمن طريق المالكية وشيخه الباقلاني، فقد شد أبوعمران الرحلة إلى المغرب وعندما وصل إلى بغداد اجتذبته حلقات فقه العلوم([28])، وللوهلة الأولى يجب التأكيد على حتى الفاسي لم يفهم حسب رأي عياض السبتي على الباقلاني غير فهم الأصول([29])، إلا حتى عملية التلقي هذه قد هجرت في نفس الفاسي أثراً عميقاً جعلته يتحدث عنها قائلاً إذا شيخه الباقلاني «سيف أهل السنة في زمانه، وإمام متحدثي أهل الحق في وقتنا (...) وقد رحلت إلى بغداد وكنت قد تفقهت بالمغرب والأندلس عند أبي الحسن القابسي وأبي محمد الأصلي وكانا عالمين بالأصول فلما حضرت مجلس القاضي أبي بكر رأيت كلامه في الأصول والفقه والمؤالف والمخالف حقرت نفسي وقلت: لا أفهم من الفهم شيئاً ورجعت عنده كالمبتدئ...»([30]). إذا الفاسي هنا يتحدث عن آراء شيخه باعتبارها «طريقة أهل الحق» وهومفهوم فضفاض لا يعبر عن اقتناعه بأراء الأشعرية، وذلك لأنه لم يدرسها ابتداء إلى جانب معارفه من الفقه والأصول التي رده الباقلاني فيها "كالمبتدئ" ثم إنه من المأثور عن الفاسي أنه وصل إلى بغداد وهولا يحسن إقامة الدليل "الكلامي" على قضايا الشريعة([31])، اللهم إلا إذا كانت عودته إلى القيروان وما حسمه فيها من قضايا كانت تشوش عقائد العامة([32]) واقعاً يؤكد حصوله على زاد أشعري تلقاه في بغداد وأبقاه طي الكتمان جرياً على سنن اتخذه الباقلاني إزاء علوم "الأوائل"([33]). ومهما يكن الأمر فإن الفاسي لم يعلن "آراءه" الأشعرية في القيروان بل بقي ينشر مورث الأصول الذي تلقاه عن الباقلاني، وعلوم الحديث التي درسها على أبي ذر الهروي في مكة([34]). كما أنه لم يهجر نصاً يفيد تأثره بالعقد الأشعري بل إذا تآليفه قليلة نادرة أشهرها "كتاب التعاليق على المدونة" وهومؤلف في فقه المالكية قليل التداول([35]).

وحتى إذا كان الفاسي قد تعمق في الفقه الأشعري وآراء أهل الكلام فإن هذا الجانب من زاده الفهمي لم ينشر بين تلاميذه خصوصاً وجاج بن زلوه الذي تفهم عليه داعية المرابطين عبد الله ابن ياسين، والظاهر حتى أبا عمران الفاسي كان يؤثر في تلاميذه بكيفيات مختلفة تعاليمهم الفكرية ومشاغلهم الخاصة، لذا كان منهم من غلب عليه التأثر بالفقه ومنهم من تأثر بفهمه في العقيدة إلى جانب فهمه في الفقه وعلى حسب ذلك كانت آثارهم ونتائجهم([36]). فلعل هذا التقليد وحده هوما انتقل من الفاسي إلى وجاج ثم إلى ابن ياسين ومن هنا عمل هذا الأخير على إشاعة العقد السلفي في الصحراء ولم يستطع حتى يخرج على ذلك السنن المالكي الصارم رغم أنه كان قد ولج الأندلس ودرس بها علوماً كثيرة وصف معها حتى كان مشاركاً في بعض العلوم التي قد تكون زاداً من "علوم الأوائل([37]). ورغم أهمية هذه العوامل في الحد من انتشار الأشعرية بين فقهاء المرابطين الأول إلا أنها عوامل تظل متصلة بتنطقيد الفهم أي بالنسق الفكري وآلياته، وهي بذلك على أهميتها، تظل غير حاسمة في الإجابة عن مسببات غياب الأشعرية في عملية الأسلمة المرابطية على مستوى صحراء "الملثمين".*

مستوى الحاجة الفكري

إننا نحسب حتى خصوصية الحق الذي نشطت فيه دعوة فقهاء المالكية بالقيروان ثم بالمغرب الأقصى والصحراء، هي الفيصل في عملية الاختيارات العقدية الأساسية للحركة المرابطية. إذ حتى تبني أي نسق فكري أوسياسي من قبل دعوة أوحركة يظل مرتبطاً أشد الارتباط بمدى الحاجة إلى توظيف هذا النسق أوذاك من أجل إنجاح المشروع المستهدف. ومن هنا كانت حاجة القوى السنية في المشرق إلى العقد الأشعري (الذي يحتفظ بقليل أوكثير من المشروعية السنية السلفية وتحذق أصحابه أساليب الحجاج والنظر) للقاءة الخصوم الباطنيين المتسلحين بموروث الفكري الغنوصي والمانوي وآراء الملل والنحل المتنوعة أي حتى طبيعة التهديد قد حددت منذ البداية نوعية السلاح والأمر نفسه يصدق على محاولة الحركة الإسماعيلية في الغرب الإسلامي، حيث نجحوا سياسياً بفضل هجريزهم على الجانب التنظيمي السياسي واكتفائهم على مستوى الأفكار بنشر فكرة المهدوية بغية جمع الولاء القبلي البربري حول فكرة الدفاع عن حق آل البيت([38])، ولم يحاولوا نشر آراء الإسماعيلية في مستوياتها الباطنية في نفس المحيط البربري بين مجموعات لا تستطيع تقبل واستيعاب الأفكار الباطنية المعقدة إلا إذا تبلورت في شعارات تحرك العواطف، ومن هنا فإن طبيعة الحقل الذي قابلته جميع الدعوات ضمن الإطار الإسلامي ونوعية الخصوم كانت هي العوامل الأساسية التي بلورت نوعية الخطاب الذي تستلزمه جميع دعوة وحركة. ونفتقد حتى تلك الخصوصيات وغيرها من الظروف هي التي وعاها المالكيون في إفريقية ومنهم انتقلت إلى نادىة المرابطين الأول فساهمت بذلك في اختياراتهم الفكرية الأساسية فضلاً عن تأثير حقل الدعوة في الصحراء وظرفيتها السياسية في المغرب وطبيعة القائمين بالدعوة نفسها جميع ذلك ساهم في نفس عملية الاختيار، ذلك لأننا إذا لم ننطلق من هذا المنحنى لا نستطيع سوى تقديم إجابة عائمة عن الأسباب التي جعلت ابن ياسين يتنكب المنهج الأشعري بل وأساليب فهم الكلام من أساسها، ويولي وجهة شرط المالكية النصانية وآرائها التي تلائم الوسط البدوي الذي ينوي بعض الدعوة من أعماقه، إننا يمكن حتى نرجع هذا التوجه وخصوصيته الدعوية إلى مستويين اثنين:*


  • أولاً: الخصوصية النسقية للمالكية: تتمثل هذه الخصوصية في التقليد الفهمي المأثور عن مالك بن أنس والقاضي برفض «الرد العقلي على أهل البدع لأنه في رأيه رد بدعة ببدعة، ويرى ضرورة الرد عليها بالنقل»([39]). ولذا فإنه إذا اتى بعض أهل الأهواء كان يقول: «أما أنا عملى بينة من ربي وأما أنت فشاك فامضى إلى شاك مثلك فخاصمه»([40]). وهوتقليد ازداد صلابة على يد فقهاء الغرب الإسلامي سواء

منهم أولئك الذين تلقى عنهم ابن ياسين فقه المالكية أوغيرهم من "الأعلام" الذين يندرج هونفسه في سلكهم وقد تدعم هذا المنحى واشتد أثره في فكر ابن ياسين عندما خبر بنفسه طبيعة المناوئين لدعوته في صحراء الملثمين.

  • ثانياً: محدودية عنصر الخصوم: فرضا حتى العقد الأشعري وما يصطنعه أصحابه من أساليب الحجاج والنظر كانت جلية واضحة في خطاب الدعوة المرابطي عند ابن ياسين، فضد من سيوظف هذا الأسلوب الفكري المجادل، وعنصر الخصوم الذي استدعى اصطناع مثل تلك الأساليب عنصر غير حاضر في صحراء الملثمين حضور يتأسس وجود أصحابه في إطار مشروع فكري إيديولوجي. ذلك حتى صحراء الملثمين كانت تعهد بشكل خاص وجود

نحل وديانات وفرق تتراوح بين الأديان السماوية والأفكار الوثنية إلى جانب المجموعات التي تعتنق آراء الفرق الإسلامية المبتدعة([41])، ولم يكن حضورها في المنطقة إلا حضوراً سياسياً واقتصادياً مما جعل مناوءتها ومصاوأتها من قبل المرابطين تغلب منازلة بالسيف والسنان لا بالقلم واللسان. ولعل هذه الخصوصية الدعوية هي التي جعلت بعض الباحثين يعتبر الدعوة المرابطية في الصحراء قد قامت بنشر الإسلام السني بدل مثيله الإباضي الذي كان قد انتشر في المنطقة على يد النادىة الأباضيين الأول([42]). ويبقى السبب الحاسم في غياب الأشعرية من الفضاء المرابطي هوالسبب الهيكلي المتمثل في عدم تقبل البدوالرحل للنّزعات الباطنية، والعقائد الموغلة في التجريد الذي تدق به عن أفهام "العامة". ناهيك عن حتى حضور المتحدثين السنيين الأشاعرة المتمحضين لمفهم الكلام إلى الصحراء كان قليلاً وهوإلى ذلك ضئيل التأثير.

  • ففي العهد المرابطي الأول وصل إلى الصحراء قادماً من أغمات المتحدث الأصولي أبوبكر محمد بن الحسن الحضرمي المرادي القيرواني (ت. 489 ه)([43]) «وقد كان الحضرمي أول من أدخل علوم الاعتقادات إلى المغرب الأقصى»([44])، وبالتالي فإن حقل الأشعرية لم يكن أمامه معبداً بانتفاء وجودها ابتداء في المنطقة، ولذلك لم يؤثر عن الحضرمي أنه نشر في صحراء الملثمين آراءه في العقد الأشعري رغم أنه

صاغ هذه الآراء ضمن أرجوزات مختصرة سهلة الحفظ([45])، وما دامت لم تبق لنا منها أثرة أونماء يبني عليه المتأخرون فمعناه حتى صاحبها لم يستطع إشاعتها في الأوساط الصحراوية، أوحاول ذلك، ولكنها كانت محاولة لم تؤت ثمارها لانتفاء الحاجة إليها أصلاً.*

  • ومن هنا يمكن تفسير كون شخ الأشعرية بأغمات أبا الحجاج موسى الكلبي الضرير كان آخر أئمة المغرب فيما أخذه عن الحضرمي من علوم الاعتقادات بالمغرب الأقصى([46])، وبعده توارت الأشعرية إلى حين، وبذلك يمكننا اعتماد قولة العروي([47]) التي مؤداها أنه بعد استتباب أمر المرابطين وقع التخلي عن الكلام الأشعري رغم مقام الباقلاني،يا ترى؟ وهوسؤال نعتقد أنه في غير محله نظراً لكونه لا يفسر كيف من الممكن أن يتم التخلي عن نسق فكري لم يتقبل منذ البداية أويستخدم عملياً، ثم لأن الطابع الممضىي المالكي قد طغى منذ البداية على مشروع الحركة المرابطية فضلاً عن حتى أهل الصحراء قد تقلبوا هذا الممضى وبسهولة تفسر نجاح دعوة المرابطين واستمرارها في المنطقة.*


البعد المالكي للحركة المرابطية

يبدوحتى العوامل التي أدت إلى ضمور الأشعرية في الإسلام المرابطي، كانت هي الفاعلة لتمكين الممضى المالكي في الصحراء، وفي القاعدة الفكرية للحركة المرابطية. فطبيعة الممضى المالكي من حيث جوهره، هي طبيعية قوامها الإبعاد عن أساليب أصحاب فهم الكلام والمنطق أي عن الرأي. ومن هنا ذلك التقليد المالكي القائم على كراهة ما ليس تحته عمل من قضايا ومسائل الأحكام، بحيث أصبح الممضى المالكي «لا يقوم على الرأي والقياس بقدر ما يقوم على النص والنقل وعلى الأثر والرواية»([48])، ولعل هذا جمعيه هوالذي جعل الممضى المالكي يمثل الوجه الآخر لعقيدة السلف التي هي على الأرجح العقد الذي تقبله أهل الصحراء لبساطته ووضوحه. ولعل هذا الواقع هوما عناه ابن خلدون حين قرر «إن البداوة كانت غالبة على أهل المغرب والأندلس أومن في حكمهم من أهل صحراء المغرب، ولمقد يكونوا يعانون الحضارة التي لأهل العراق فكانوا لأهل الحجاز أميل لمناسبة البداوة ولهذا لم يزل الممضى المالكي عندهم غضاً ولم يأخذه تنقيح الحضارة وتهذيبها كما سقط في غيره من المذاهب..»([49]).*

  • إن هذه الخصوصية التي امتاز بها الممضى المالكي على مستوى نسقه الفكري، هي ما نحسبه البريق الذي مضى إليه جماعات صنهاجة الصحراء لكونهم بدواً رحلاً لا يستطيعون، كحالهم مع العقد الأشعري، تقبل الأنساق الفكرية التي تميل إلى التعقيد أوتتبنى الأساليب الاستدلالية المفضية إليه. ومن هنا كان الصنهاجيون يميلون دائماً إلى الأفكار التي تلائم حياتهم المتمثلة في زهد موغل في البساطة، وورع صارم يتمثل في صرامة الأحكام و"سد الذرائع"([50])، إلى جانب قدرة مشهورة على التكليف مع الواقع وما يطرحه بين الحين والآخر مثل إشكالات تستدعي انزياحاً لقاءاً لها على مستوى المدونة المالكية([51]).*

ولا ننسى حتى ارتباط المشروع المرابطي بشبكة من الفقهاء المالكيين قد جعل الخطاب السياسي للحركة يتخذ وجهته المالكية منذ اللحظة الأولى، ناهيك عن حتى قيام الدولة المرابطية قد مكن للممضى المالكي بين "الرعية" بل وبين أهل الحكم أنفسهم. وتوقر هذا الأفق السياسي والإيديولوجي الداعم للممضى المالكي يمكن فهمه بالاستئناس بقول لابن حزم([52]) مفاده حتى ممضىين انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان وهما ممضى أبي حنيفة وممضى مالك بن أنس، ويتأكد تلازم السياسي الديني في المجال السلطوي المرابطي وارتباط صحراء الملثمين بهما، من مراجعة فتويتن وردتا في "المعيار المغرب.."، كبراهما([53]) للفقيه ابن رشد([54])، والصغرى([55]) للفقيه ابن حمدين([56])، وكلتاهما إجابة عن استفتائين وردا من مرابطي الصحراء بشأن الأموال المختلطة وكلها من المواشي التي خاطها المال المغصوب الناتج عن عملية السلب والنهب التي ظلت بعض قبائل المنطقة تعهدها، من الممكن قبل بدء أمر المرابطين، ومهما كان الطابع الفقهي للأسئلة وطبيعة الردود وملابساتها، فإن توجيهها إلى هذين الفقيهين يشير على نوع ما من الارتباط بالوجه الرسمي للممضى المالكي، إذ إذا المعنيين كانا من كبار قضاة الحكم المرابطي، فابن حمدين كان من أبرز متزعمي عملية الإحراق المشهورة لكتاب "الإحياء" لأبي حامد الغزالي([57])، أي أنه كان يتبنى علناً خطاب الدولة وعنه ينافح، أما ابن رشد فقد ظل من كبار فقهاء الحكم المرابطي، رغم أنه كان من الذين وقفوا من عملية "الإحراق" موقفاً صامتاً يفهم أنه كان "للإحياء" أكثر مما قد يحدث عليه([58])، إلا أنه ظل يحترم الشرعية المرابطية ويذكر رموزها بالتعظيم([59]).

وإلى جانب هذا التعلق الصحراوي بالممضى الرسمي للدولة و"ممثليه" لدى مركز الحكم، ترد إشارات هامة ضمن فتوى ابن رشد تؤكد حضور الوجه الآخر لعملية التعلق نفسه، وهوالوجه السياسي، فالفتوى الرشدية تشير إلى حتى «الأموال المختلطة المشار إليها كانت تقدم منها الهدايا لأمير المسلمين ناصر الدين»([60])، وهولقب أمراء المرابطين منذ عهد يوسف بن تاشفين (480-500 ه/ 1087-1106)([61])، ناهيك عن أنها تصرح كذلك بوجود أمير مولي على الصحراء وقبائلها من قبل أمير المسلمين نفسه، الأمر الذي يؤكد حتى المنطقة ظلت على تبعيتها القوية للسلطة المرابطية في مراكش، وجهازها الإيديولوجي المرابطي، على الأقل حتى عهد علي بن يوسف بن تاشفين (500-537 ه/ 1102-1142)، ومن هنا يمكن تفسير الأسماء التي ترد في نصوص غميسة عن أمراء صنهاجيين في الصحراء بأنها تعني الولاة المعنيين من قبل الحكم، في مراكش على المنطقة([62])، ومن نفس السياق يمكن فهم نفس الأصداء التي تتردد ضمن الروايات المحلية المدونة في موريتانيا اليوم([63]). أما الفضاء الإيديولوجي المرابطي فلربما ظل موجوداً في الصحراء بحكم بقاء الحكم المالكي مسيطراً فيها، ثم بحكم التقليد الذي يذكر البكري أنه استمر بين الصنهاجيين، والذي يقضي بأنهم كانوا لا يقدمون للإمامة إلا من صلى خلف ابن ياسين([64]). ومهما كان دور هذه الملابسات في إبقاء الممضى المالكي الإطار الأمثل لإسلام الصحراويين وعلاقتهم بالمرابطين، فإن مستويات التلقي المعهدي وخصوصيات التلقي تظل هي الأساس في ترسيخ المالكية بين "طبقة الفقهاء المرابطين"، التي احتضنت منظري الحركة المرابطية ونادىتها الذين بعثوا المشروع التوحيدي المرابطي والممضى المالكي في الصحراء.*


طبقة فقهاء المرابطين

إن المتفحص لخط التراجم يلاحظ اندراج أبي عمران الفاسي([65]) وتلاميذه ومن تخرجوا عليهم معاصري هؤلاء ضمن طبقة من الفقهاء موزعة على مجالات مدينية قبلية وساهمت بدرجة أوبأخرى في التهيئة للمشروع المرابطي ثم في إنجاحه فيما بعد.*

دراساته في فاس: رغم حتى هذه المدينة كانت قد عهدت فئة من فهماء المالكية المتمكنين أمثال أبي ميمونة دراس بن إسماعيل (ت. 375 ه/ 968 م) والذي كان قد ولج الأندلس على عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر فرابط في ثغورها وهولا يزال يطلب الفهم([66])، ومن طبقته يرد اسم موسى بن يحيى الصدين (ت. 388 ه) وأصله من فاس، وكان «كبير فقهاء بلده وشيخهم الشهير بوقته وبعده..»([67]). ورغم حتى هذه الأسماء قد مهدت للمالكية في فاس، إلا أنها لا تنتمي للطبقة المعينة، لكن هناك جملة أسماء أخرى عاصرت الفاسي فاندرجت بذلك في سلك المالكية الممهدة للحركة المرابطية، بحكم الروابط التي جمعتها مع فقهاء اتصلوا بأبي عمران بطريق مباشر أومن وجوه معهدية غير مباشرة كالأسانيد وما شاكلها. ومن أبرز هذه الطبقة ترد الأسماء الآتية:


  • - هناك الفقيه عثمان بن مالك و«زعيم فقهاء المغرب بوقته»، والمرجح حتى أبا عمران قد تفهم على ابن مالك هذا، لأنه توفي سنة (444 ه) ولأن فقهاء فاس قدأخذوا عنه على ما يذكر صاحب "المدارك"([68]).*
  • وقبل حتى يرحل أبوعمران إلى القيروان أخذ عنه في فاس وجاج بن زلوه اللمطي (ت.445 ه)([69]) وعلى هذا الأخير تتلمذ فقهاء جزولة.
  • - جزوليون: من أشهر هؤلاء عبد الله بن ياسين الجزولي (ت. 451 ه) وقد ولد في بلاد جزولة، بقرية تمنارت([70])، وقد أعمل الرحلة في شبابه إلى الأندلس وبها مكث سبع سنين «فحصل علوماً كثيرة، ثم عاد أدراجه ليدرس على شيخه وجاج في إطار المرابطين»([71]). وهناك الأخوان الجزوليان اللذان تتلمذا على وجاج أيضاً،

وعاصرا ابن ياسين ولعلهما شاركا في الحركة المرابطية قبل وبعد وفاته، والمعنيان هما أبوالقاسم وسليمان ابنا عذرا (عدو) الجزوليان والأول منهما كان من أصحاب وجاج بن زلوه اللمطي الفقيه «حسب القاضي عياض»([72]). أما الثاني فهوالقائم بأمر المرابطين بعد عبد الله بن ياسين لكنه لم يمكث على رأس الحركة طويلاً إذ توفي سنة (452 ه)([73]).*

  • - من المصامدة: من غير الجزوليين يرد اسم أيوب بن محمد([74]) الذي كان فقيه المصامدة لعهده، ووصف بأنه من أهل الفهم، ويبدوأنه أعمل الرحلة إلى المشرق حيث لقي أبا عمران وغيره من شيوخ القرويين [القيروانيين]، حيث كان القيروان محطة تقليدية لطلاب الأندلس والمغرب المتجهين صوب المشرق([75]) من هذه الطبقة من المصامدة أيضاً، يعهد تومارت بن تيدي([76]) ووصف بأنه من الفقهاء الفضلاء ولعله أخذ عنه أبي عمران أوعن أحد تلاميذه، وذلك بحكم كون مفهوم الطبقة قد لا يعني مجرد التزامن بين انسحاب التراجم بل إذا مشموله قد ينسحب على التنطقيد الفهمية ممثلة في الأسانيد أوالتلمذة أوهذا بأجمعه([77]).*
  • - من صنهاجة الصحراء: لا تنسب المصادر إليهم من هذه الطبقة غير المسمى لمتاد بن نفير اللمتوني الذي كان من العباد الفقهاء المعروفين بين قبيلته، كما كان "المثل يضرب بفتياه" في بلاد الصحراء وتعظيم أمرها([78]). والمفهوم أنه كانت للمتاد هذا صلة بمدرسة أبي عمران أوبوجاج نفسه، وإلا لعارض ابن ياسين عندما

حل ببني لمتونة([79])، فضلاً عن أنه هوالذي أفتى بقتل زعيم المغراويين في سجلماسة، جزاء قدره بالمرابطين، إذ لا يمكن حتى يصدر هذه الفتوى، وفي عهد الحركة الأولى وعلى مسمع ومرأى من ابن ياسين، إلا فقيه ذوشأن فهمي مكين تعضده صلة وطيدة، أيّاً كان شكلها، بفقيه الحركة أوبشيوخه.*

  • - أغماتيون: من تلاميذ الفاسي تذكر المصادر كلاًّ من عبد العزيز والتونسي الزاهد ومحمد بن صدين المتوفيين في سنة (486 ه/ 1093 م) في أغمات، ولعلهما عهدا في نفس المدينة قاضي المرابطين بازكي المتحدث محمد بن الحسن الحضرمي (ت.489 ه) والذي وصل إلى أغمات قادماً من القيروان([80]). وهنا ينبغي التساؤل عن طبيعة هذا لحضور المتزامن نسبياً بين المعنيين الذين للفاسي، إلا حتى القدوم من نفس الوجهة وفي فترة زمنية لم يكن الفاسي قد توفي فيها([81])، أمور يمكن حتى تؤكد وجود هذه التلمذة ومع ذلك فإن سند الحضرمي يبقى مشرقياً في معظمه باستثناء الأديب المغربي المعروف بالقصديري([82]). ومهما يكن من أمر فإننا نحسب تعثر أمر الحضرمي الذي تشير إليه المصادر، من الممكن كان راجعاً إلى الزاد الفهمي العقدي الذي اتى به هذا المتحدث إلى المغرب في محيط مالكي يحمل إزاء هذا الجانب من الفهم موقفاً أسلفنا إليه الإشارة، إلا وقد ابتغى إليها الوسيلة([83])، كما حتى المصادر تشير إلى حضوره في سجلماسة من الممكن على عهد حكامها الزناتيين([84])، فهل يعني ذلك الترحال الدائب إلى أرباب السلطان، عملية بحث

عن أفق سياسي يمكن لمشروع سياسي كان الحضرمي يحمله، إننا نعتقد حتى الأمر كذلك وأن هذا المشروع قد يحدث ذا صلة بآراء الفاسي الذي نشر تلاميذه في الغرب ومهد المرابطين، أوقد يكون الحضرمي متأثراً بمناخ المد السني الذي ساد المشرق منذ القرن الرابع ومعظم القرن الخامس الهجريين.*

  • وعلى العموم فإن ما يهمنا من هذه الأسماء هوما لاحظناه من روابط فهمية جمعت بينها، كما حتى المعنيين كانوا ينتسبون إلى جل القبائل والمجالات التي ساندت حركة المرابطين في زحفها نحوالشمال فضلاً عن حتى ابن ياسين كان مندرجاً في سلك المعنيين كما كان قد خبر أمور قبائلهم وجاس خلال ديارهم قبل الدعوة المرابطية وبعدها فهل كانت طبقة الفقهاء تلك هي الإطار الممضىي الأوسع الذي أفرز شبكة

فقهاء المشروع المرابطي،يا ترى؟ وكيف تَمّ ذلك وما هي ملابساته،يا ترى؟ وإلى أي حد كانت آراء المعنيين حاضرة في المشروع التوحيدي الذي حبكه تلميذهم المحنك ابن ياسين؟.*

  • إننا نعتقد حتى مشروع الحركة المرابطية تبلورت في ذهن ابن ياسين على مراحل وارتبط بقوة بتجارب الدعوة والجهاد التي قادها قبل وجاج وأبوعمران حيث تسربت آراء هؤلاء إلى "برنامج" الحركة المرابطية وأهدافها. فكيف تبلورت هذه "البرامج الجزئية"،يا ترى؟ وكيف تداخلت مجتمعة في ذهن ابن ياسين مع "برنامجه الخاص".


أبوعمران ولقاءة "المظالم" الزناتية

  • لقد عهد عهد أبي عمران الفاسي استقلال بني مغراوة الزناتيين عن الأمويين سنة 390 ه/ 1000 م وبسطهم تدريجياً سيطرتهم بدءاً من فاس حتى سجلماسة وأغمات وتامدولت، وقد تَمّ ذلك في ظل صراعات مستمرة وفوضى سائدة جعلت الحياة اليومية لا تطاق وحالت دون أي نشاط اقتصادي طبيعي في عهعد الزناتيين([85])، ويبدوحتى شيئاً ما في هذه الوضعية العامة قد استفز أبا عمران الفاسي، وربما أيضاً بعض فقهاء المنطقة، ودفعهم إلى التنديد بها وعارضتها علنياً، خصوصاً وأن الزناتيين لم كونوا خصوماً من الوجهة الدينية بحكم كونهم من أهل السنة في ذلك الوقت، بل حتى منهم من كان مولع بجهاد برغواطة (...) يغزوهم في جميع سنة مرتين فيقتل منهم ويسبي([86])، كما حتى الأمراء الذين ثاروا على رعيتهم بشكل حاد وفظيع لمقد يكونوا هم المعاصرين للفاسي، إذ تولوا الإمارة بعد وفاته بعقدين على الأقل([87]). فما

هي هذه الوضعية التي أدت إلى تفاقم الأوضاع في عهد الفاسي ودفعه إلى الصدام مع حكام فاس،يا ترى؟ إننا نعتقد حتى سلسلة المجاعات التي بدأت من سنة 380 ه واستمرت إلى 462 ه، هي التي جعلت الزناتيين ينتهكون حقوق رعاياهم ويستطيلون على أموالهم بشكل دفع الفاسي إلى إعلان الثورة ضدهم بدعوته إلى تغيير منكر (المظالم) وأمره بمعروف رد (الحقوق) إلى أصحابها ومن هنا اكتسبت دعوته منذ البداية طابعها السياسي فكيف تَمّ ذلك،يا ترى؟ إذا المصادر لا تذكر سبباً لرحلة الفاسي إلى القيروان وحلوله بين فقهائها، سوى أنه رحل إلى المدينة ليتفقه بأبي الحسن القابسي (3-404 ه)([88]). لكن صاحب "بيوتات فاس" يمدنا برواية جديدة تفصح عن السبب الذي أزعج أبا عمران في موطنه الأصلي ودفعه إلى الهجرة عنه نهائياً وقطب الرواية يدور حول معارضة الفقيه قيام أهل قياس بإحداه «البدع والمظالم والمغارم وأخذهم أموال الناس بغير حق»([89]). وقد اتخذ هذا النهي من طبيعة الحال طريقة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبسبب ذلك أخرجه من فاس الطغاة من أهلها العاملين بمغراوة..حيث أعانوا على ذلك ولاة أمورهم من بني العافية المكناسيين ومغراوة وبني يفرن وكلهم من زناتة من البربر حيث ولوا من ولوا [كذا في الأصل] من على مدينة فاس بعد اللفسة من الظلم والجور ما لم يسمع بمثله...»([90]). ومن هناك فإن دعوة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في عهد الفاسي كانت تتعلق بالتصدي للحكام الزناتيين ومظالمهم وما أحدثوه من المظالم وهذا البعد كان حاضراً وبجلاء ضمن "برنامج" حركة المرابطين ولذلك فإن البكري الذي عاصر بدء أمر الحركة بالمغرب قد عهد القبائل المرابطية من الصحراء بأنها «هي التي قامت بعد الأربعين والأربعمائة بدعوة الحق ورد المظالم وبتر المغارم»([91]) الأمر الذي يؤكد الروابط الوثيقة بين آراء الفقهاء المعنيين بالحركة المرابطية منذ حتى كانت مشروعاً إلى حتى أضحت حركة فدولة ومن هنا لا يمكن التعويل على الرأي القائل([92]) بأن مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في عهد أبي عمران هوذلك التقليد الذي تلقاه عن شيخه القادسي والقاضي بالنهي عن اجتماع أهل الزهد والعبادة الذي كانوا يجمعون بين قراءة القرآن وحكاية قصص الصالحين وإنشاد الشعر وهي حلقات كرسها أوتغاضى عنها المغراويون من حكام فاس الذي كانوا يحاربون غيرها من التجمعات التي من الممكن مثلت خطراً على سلطتهم وإنما كانوا يسمحون بإنشاء الرابطات بغية الجهاد ضد النحلة البرغواطية ولوكان طابع دعوة الفاسي بهذا الشكل من المهادنة لما ظهر من خطاب لزعيم صنهاجة، الذي مر به قادماً من المشرق حرصه على التأكيد بضرورة قلب الأوضاع الصنهاجية من خلال ثورة إصلاحية لا تخلومن العنف. وهوما يتضح من استبيان المحادثة التي جرت بين الفقيه القيرواني والأمير الصحراوي وذلك بالتشديد على جمل منها بعينها تحمل مضامين لا تخلومن نفس سياسي.

  • فالسؤال عن بلد الكدالي وسيرته وما ينتحله قومه من المذاهب([93]) يظهر سعياً من الفاسي للتأكد من خصوصية حقل الدعوة المرتقبة من حيث خلوه من الدوائر الممضىية والنّزعات المناوئة للممضى المالكي وبذا فإنه عندما تأكد من ذلك صرح حتى الأمير الصحراوي كان «سليم النية واليقين»([94]) أي لا صلة له بآراء الفرق المبتدعة أوغيرها من الدوائر ذات الخطاب السياسي الذي يعارضه الفاسي وأضرابه من فقهاء الغرب الإسلامي، ومن هنا كان أبوعمران منتظراً من محاوره بسط القول في معوقات القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر([95]) أي الثورة على الأوضاع السياسية والاقتصادية المهترئة أوجمع ضم قبائل صنهاجة المتحدة وقتها في حلف قوي يقود الكدالي نفسه، من أجل تحقيق مطالب الفاسي وتلاميذه بالمغرب الأقصى وكان تعليل أمير صنهاجة لأسباب عجز قومه عن القيام بالدعوة المطلوبة

لضعف صلاتهم في الصحراء بمنابع الإسلام السني فلم يكن يصل إليهم «إلا مفهمون لا ورع لهم ولا فهم بالسنة»([96])، ولا يعني هذا النفي حتى القادمين كانت بضاعتهم من الفهم مزجاة، بقدر ما تأكيد على حتى هؤلاء المفهمين ليسوامالكيين أوغير سنيين حسب معايير الفاسي كما قد يعني الخطاب حتى المعنيين ليسوا من أهل الدعوة والنهوض بأمورها بل هم ممن لا ورع له أومدار حرفته على المتاجرة حصراً([97]).*

  • إن قراءتنا للألفاظ ومراميها في خطاب أبي عمران لشيخ صنهاجة ليست مجرد تمحل، بل هوتأكيد منا على حتى مدلولها ينبئ عن مشروع جهادي إصلاحي كان أبوعمران يسعى إلى تحقيقه وهوما تصرح به رواية "بيوتات فاس" بقولها «إن الفقيه الفاسي قد ندب الزعيم الصنهاجي إلى قتال برغواطة ببلاد السوس وقتال زناتة على ما صدر منهم من الظلم واستنْزال رأسائهم من الولاية»([98])، أي لقاءة التفكك الممضىي

في المنطقة وتسليم الأوضاع التي بسببها خرج الفاسي من موطنه مكرهاً، ونظراً لبعد الفاسي عن حقل التغيير فقد أحال الأمير الصحراوي إلى وجاج ابن زلوه اللمطي ليجد عنده بغيته، حيث كان اللمطي من أصحاب الرباطات المقامة للجهاد والتعليم فضلاً عن أنه كان تلميذاً للفاسي وأحد أبرز فقهاء المرابطين فكيف أسهم في بلورة "مساهمته" في الحركة المرابطية؟*


اللمطي ولقاءة التفكك الممضىي

  • انتمى وجاج قبل تلمذته للفاسي إلى نظام للمرابطة أسسه فقيه أغماتي يدي ابن تيسيت ولعل ذلك قد هجر في نفسه أثراً قوياً، فقد اتى في كتاب "القبلة" (مخطوط بالرباط) عند الحديث عن المساجد العتيقة أغمات ذكر «المساجد التي بنتها تلامذة أبي محمد بن عبد الله بن تيسيت لأنهم جعلهم الله سبباً لإطفاء فتنة برغواطة الذين قاموا بالمغرب سنة ثلاث مائة..»([99]). وتستطرد الرواية في القول إن

تلاميذ هذا الفقيه الأغماتي قد أخذوا يقاتلون الكفار ولعله لم يحبذ حتى تكون الأعمال انتحارية، وهوما يتبين من تشاور التلاميذة مع شيخهم بشأن مجاهدة البرغواطيين([100]) حيث كانت إجابة الشيخ قصيرة: إذا كانت لكم بهم مقدرة فجاهدوهم([101]).«ورغم ما يحمله هذا الجواب من شك في فترات هؤلاء المتحمسين إلا حتى الشيخ قد انتدب للجهاد ثلاثة من تلاميذه منهم داوود بن يهلل الصنهاجي ويحيى بن ويدفا ويعلي بن مصلين وذلك حسب كثرة قبائل الموجهين للمعركة»([102]). ويذكر عن المنتدب اللثالث يعلي بن مصلين أنه كان ثالث ثلاثة انتدبهم شيخهم أبومحمد تيسيت بأغمات لقتال برغواطة وهوالذي بنى مسجد رباط شاكر وكان ذلك قرابة المائة الرابعة للهجرة([103]).*

  • أما وجاج بن زلوه اللمطي فيؤكد صاحب كتاب "القبلة" أنه كان من تلامذة ابن تيسيت بأغمات قبل قيام دولة المرابطين ومن طلبة هذا الشيخ الذين جاهدوا برغواطة والمعلوم حتى وجاج كان إذاك في ريعان الشباب وربما توجه بعد انفراط عقد رباط الأغماتيين هذا إلى شيخه أبي عمران حيث تفهم عليه في فاس قبل حتى يكر راجعاً صوب السوس ليؤسس رباطه الخاص.
  • إن المهم من صلة وجاج لابن التيسيت هوأنه قد تلقى عنه تنطقيد المرابطة والجهاد التي عمقتها المعارف المتلقاة عن الفقيه الفاسي مما جعل وجاجاً يؤسس رباطاً أكثر أهمية سماه "دار المرابطين"([104])، ولعل هذا التأسيس كان الفترة الأكثر اكتمالاً لتنطقيد المرابطة في بلاد المغرب، ومن هنا لم يقتصر الرباط الجديد على التعبئة للجهاد والمرابطة على تخوم أصحاب البدع بل إنه ركز على بث الفهم ونشر الخير حرصاً على تحصين السكان وطلبة الرباط، أما نحل السوس ومذاهبه فكأن "دار المرابطين" أضحت اللقاء "المغربي المالكي" "للمدرسة النظامية" التي أنشأها الحكم السلجوقي ومتحدثوالأشاعرة في المشرق بغية تكوين جبل من النادىة السنيين القادرين على لقاءة أفكار الباطنية أووأدها في المهد ومهما كانت دقة

اللقاءة بين المؤسستين، فإن "دار المرابطين" قد ركزت على نفس البرنامج الذي اتخذته "نظيرتها المشرقية". فقد ركز عميد الدار على التهيئة الروحية بإخضاع الملتحقين بالرباط الجديد لنظام "حركي" خاص قوامه اعتياد شظف العيش والصرامة في السلوك والدقة في التفهم وهوأسلوب مكن خريجي دار المرابطين مثل ابن ياسين، من التعامل مع مجتمعات بدوالصحراء الذين يؤثر فيهم «بالسلوك والعمل لا باللسان والجدل» ولولم تكن وظيفة دار المرابطين كذلك لما كان هناك داع لأن يستقر في رحابها داعية المرابطين والأول عبد الله بن ياسين بعد حتى وصل من الأندلس وقد ملأ وطابه فهماً ولولم يكن الرباط الجديد قادراً على تخريج نادىة يقومون بأمر الدعوة المستهدفة لما نطق أبوعمران لأمير صنهاجة محيلاً إياه إلى وجاج معرّفاً بهذا الأخير أني أعهد ببلاد نفيس من أرض المصامدة فقيهاً حاذقاً تقياً ورعاً لقيني... وأخذ مني فهماً كثيراً وعهدت ذلك منه([105])، وأسلوب الثقة هذا واضح من تقديم ابن ياسين إلى أمير صنهاجة من قبل عميد دار المرابطين، وهي ثقة تظل مبنية على ما يعهده المعنيون عن بعضهم البعض من الهم الإصلاحي المشهجر ومن قضايا الجهاد والمرابطة التي تبلورت مجتمعة على مراحل لتتضح في ذهن ابن ياسين مشروعاً إصلاحياً توحيدياً يقوض أركان النّزعة الإقليمية التي اجتاحت المنطقة وهددت أمان ومصادر عيش السكان.

ابن ياسين ولقاءة التفكك السياسي

  • أنجز ابن ياسين بدعوته بين صنهاجة الصحراء مشروعاً توحيدياً ضم قبل وفاة مؤسسه جل مناطق المغرب وحمل برامج شيوخ ابن ياسين الذين انتدبوه للدعوة.*
  • لكن المتمعن في عملية التوحيد تلك يلاحظ ارتباطها بمجالات قبيلة معروفة كان ابن ياسين قد خبر أحوالها أيام كان مسافراً، وإليها ينتمي جل "أعلام طبقة فقهاء المرابطين"، مما يعني التساؤل عما إذا كان صنهاجة الصحراء أداة الإنجاز لمشروع لمقد يكونوا على فهم بتفاصيله التي اتفق هذا الداعية مع قبائل الشمال على تطبيقها؟
  • إننا نحسب حتى الأمر كان كذلك ولكن هموم الملثمين الصحراوية قد تسربت إلى إبعاد المشروع التي تبلورت في ذهن صاحبها على مراحل. غير حتى هذا التسرب لم يمنع المشروع التوحيدي من حتى يستمر في اتجاه مراميه النهائية، فقد انتدب ابن ياسين للدعوة في الصحراء وهوإذاك مقيم مع عميد دار المرابطين([106])، ووجد في حقل الدعوة الجديدة الأداة الضرورية لإنجاز الدعوة مشروعه الأصلي معاً ويبدو

أن إحساس ابن ياسين بضرورة لقاءة وضعية التفكك في الأندلس والمغرب وهومشروعه الأول كان قد تبلور بعد رحلته إلى الأندلس التي دخلها في عهد ملوك الطوائف( [107])، وهي فترة عهدت قمة تفكك مسلمي الأندلس وفي وقت استأسد عليهم الإفرنج في بداية الهجمات التي عهد بحرب الاسترداد (Rconquista) ناهيك عن أنه قد أمضى في الأندلس مدة سبع سنوات كانت كافية ليلمس بدقة درجة ضعف المسلمين وتخاذلهم أمام الأعداء وليعود مفعماً بالحماس من أجل الدعوة لوحدة الجهاد، ولكن هل تأثر ابن ياسين بآراء فقهاء الأندلس ممن يحملون نفس الهموم التوحيدية،يا ترى؟ إذا المصادر لا تتحدث عن مثل هذه الصلة، غير حتى ابن ياسين قد يحدث ربط لبعض الوقت على ثغور الأندلس اتباعاً لسنة المرابطة ودفاعاً عن دار الإسلام، وربما جرياً على تقليد عهد عن بعض فهماء المغرب، قبل ذلك، ممن رحلوا إلى الأندلس مثل دراس بن إسماعيل([108]). ومهما يكن فإن الفترة الأندلسية من حياة ابن ياسين هي التي أذكت في وعيه ضرورة توحيد صفوف مسلمي المنطقة. ولولم يكن الأمر كذلك لما تتبع هذا الداعية مجالات قبائل المغرب لحث هذه الأخيرة على الوحدة والتكاثف، أوحتى للجهاد على أساس من مشروع توحيدي محدد. ففي طريق عودته من الأندلس، مر ابن ياسين ببلاد "تامسنا" فلمس قوة سيطرة برغواطة على المنطقة، ومدى تفرق أهل الإقليم تحت سلطتهم، ومن الواضح أنه لم يستفسر عن أحوال البرغواطيين لأنه اعتبرهم، بلا شك، أصحاب نحلة خارجة عن الإسلام، لا يتم إصلاحها إلا باجتثاثها بغزومسلح لا هوادة فيه. لكنه اهتم بقبائل الغزوالمسلمة المجاورة لهذه النحلة وهواستفسار اعتبره بعض الإخباريين من باب «الإلهام»([109])، وهونعت قد يعني حتى الاستفسار كان في محله، كما حتى اللفظ يعني حتى هذا الداعية في طرحه الأسئلة عن الوحدة والانسجام لم يكن على وعي مسبق بها أواعتناق بها عميق. غير أننا نحسب ابن ياسين كان على بينة من أمره، وآية ذلك دعوته التوحيدية للمصامدة ومحاورته لشيوخهم في ذات الشأن. فعندما مر ببلادهم طرح عليهم جملة من الأسئلة المترابطة التي تقودهم، من باب الفهم، على الاقتناع بضرورة رص صفوفهم إتباعاً لأوامر الشرع القويم، فقد سألهم عن مدى التزامهم بالإسلام، وهويفهم أنه كذلك عملاً، فأجابوا أنهم باقون على الإسلام السليم، لكنه أبدى استغرابه لغياب سلطة يقودها إمام طبقاً للمعايير المعمول بها شرعاً ([110])، غير أنه لم يكن يفهم حتى المجموعة المصمودية كانت تعيش تنامياً عميقاً للنّزعة الإقليمية، جعل جميع فئات المجموعة ترفض الانقياد لطاعة أي قائد ينتمي للمجموعة الأخرى. ومن هنا كانت الإجابة عن أسئلة ابن ياسين «بأن نطق له بعض أشياخ المصامدة لا يرضى أحد منا حتى ينقاد إلى حكم أحد من غير قبيلته»([111]) مما جعل الداعية «يرحل عنهم إلى بلاد جزولة»([112]) أي إلى بلاده هونفسه، حيث كان الجزوليون يعيشون وضعية لا يظهر أنها أقل سوء من حيث التفكك والصراع القبلي وهوما لا تصرح به المصادر الموجودة لكن صمتها لا يشير إلى عكسه، فلوكان الوضع مختلفاً لألقى ابن ياسين عصى التسيار بين قومه بني جزولة وعبأهم من أجل تحقيق مشروعه. إلا حتى الملاحظ على عملية دعوة الداعية من الأندلس هوهذا الترحال الذائب بين تلك المجالات القبلية، وابتعاد ابن ياسين في خط سيره عن ديار نحلة برغواطة من الممكن اتقاءاً لشرها، بينما شق طريقه عبر ديار المصامدة والجزوليين. وبغض النظر عن الظرفية والعوامل التي حددت خط السير هذا، فإن التساؤل وارد عما إذا كان ابن ياسين في مروره بتلك القبائل كان باحثاً عن مجتمع قبلي يعيش حداً أدنى من الانسجام الاجتماعي والسياسي يصلح به لأن يحتضن المشروع التوحيدي المستهدف؟

  • إننا نعتقد حتى الأمر كذلك، ولذا فإن ابن ياسين عندما لم يجد بغيته بين تلك المجالات القبلية، اتجه صوب "دار المرابطين" ليحل قرب شيخه وجاج من الممكن انتظاراً لفرصة كانت تلوح في الأفق([113])، ذلك لأن هذا الرباط الكبير كان قريباً من المناطق التي ظلت تمثل المجال الرعوي المفضل لبعض صنهاجة الصحراء قبل حتى يزعجها عنه الزناتيون([114])، وهذا القرب النسبي جعل أخبار الصحراء والمغرب تسير في اتجاه كلتا المنطقتين، وهوما نبه إليه صاحب "بيوتات فاس"([115]) بإشارته إلى حتى وفد صنهاجة الذي مر بالقيروان، اتى ليتبرك بأبي عمران الفاسي بعد حتى سمع بنفي الفقيه من موطنه الأصلي. ولا يظهر حتى الوفد الصنهاجي قد بلغته هذه الأخبار وهوفي طريقه إلى الحج لأن الفاسي كان في عهد رحلة المعنيين قد استقر بالقيروان، منذ عهد طويل نسبياً. وإذا هجرنا جانباً طابع التبرك بفقيه مالكي ورع، وهوأمر مفهوم بالنسبة لمسلمي المنطقة، فإن أخبار "النفي" قد تكون تسربت إلى الصحراء من خلال القوافل التي تمر بالمنطقة على مدار العام.
  • ثم إذا انسياب الأخبار بالموثوقية التي يزكيها منطق الأحداث، هوالدافع، في نظرنا، الذي حفز ابن ياسين إلى المسير صحبة أمير صنهاجة، خصوصاً بعدما عهد أخبار هذا الأمير وأوضاع قومه من وجاج أومن الأمير نفسه، إذ لا يمكن حتى يقتحم ابن ياسين مجهول الصحراء إلا بعد حتى يتأكد من أهمية الحلف الصنهاجي الذي ينتظره، خصوصاً وأن صنهاجة وقتها كانوا عملاً يمثلون حلفاً قبلياً منسجماً مما يمثل الأداة الضرورية التي يبحث عنها ابن ياسين لإنجاز مشروعه([116]). ومع ذلك فإن ابن ياسين عندما أنجز دعوة المرابطين في الصحراء لاحظ مدى جدية بعض قبائل الدعوة لمشروع حدثتونة «فأراد حتى يملكهم المغرب»([117]) فاتجه بهم صوب سهول السوس متقدماً نحوالشمال دون حتى يمنعه موعود التمليك الذي يربطه بالمعنيين عن

هدفه الأصلي القاضي بتوحيد المغرب فكيف كان ذلك؟*

  • وقد لفتت انتباهنا تلك الصلة الواضحة بين عبد الله بن ياسين والمصامدة وقادتهم لكن الروايات التي تتحدث عن هذه الصلة لا توضح بما فيه الكفاية نوعية المتصلين بابن ياسين أي أنها لا تميز بين المصامدة في مفهومهم الخاص كقبيل متميز وبين الحلف المصمودي وقادته كفضاء بشري وإيديولوجي ينتظم جل طبقة فقهاء المرابطين وقبائلهم، ولكي يرتفع هذا اللبس سنقوم بالفصل إجرائياً بين المجالين

المشار إليهما ثم نسعى لعرض صلة ابن ياسين بكل منهما على حدة.*

المجال المصمودي العام

  • بعد وصول ابن ياسين إلى الصحراء يردد مجدداً أول ذكر لاتصاله بهذا الحلف القبلي وفقهائه، فبعدما استطاع المرابطون بمعارك طاحنة حتى يجتثوا النحلة التي كانت تسيطر على جبل آدرار شمال موريتانيا الحالية فإن ابن ياسين استولى على أسلاب المقتولين في ذلك الغزووجعلها فيئاً للمرابطين وبعث بمال عظيم مما اجتمع عنده من الزكاة والأعشار والأخماس إلى طلبة بلاد المصامدة وقضاتها([118])، وإلى

جانب أهمية هذه الغنائم بوصفها كانت أول فيء قسمه المرابطون في صحرائهم([119]) فإن الرواية تصرح بأن الطلبة والقضاة المشار إليهم هم من بلاد المصامدة وليسومن قبيل المصامدة حصراً، هذا إذا كان للإسم الأخير من دلالة خاصة. فهل أوفد ابن ياسين تلك "الهدايا" إلى المعنيين بوصفهم طرفاً في المشروع أي أنه اعتبرهم شركاء في أمر "دعوة الحق؟" ومن هم هؤلاء الطلبة والقضاة وما صلتهم ببلاد المصامدة،يا ترى؟ إننا إذا قصرنا لفظ المصامدة على قبيل بعينه فإنه يصبح من غير المفهوم حتى يضرب ابن ياسين صفحاً عن مواصلة شيخه وجاج، الذي هولمطي وليس مصمودياً، فضلاً عن طلبة هذا الأخير وهم من مختلف القبائل ومن بينها جزولة قبيلة ابن ياسين نفسه. لكن الإجمال وغياب التفصيل الذي نلمسه في الرواية يصبح مفهوماً عندما نتذكر حتى مجموع المصامدة ينسحب على قبائل عديدة منها لمطة قبيلة وجاج بن زلوه نفسه([120])، ناهيك عن صلة هذا الفقيه اللمطي بالمصامدة الذين كانوا يتبركون به وإليه يفزعون لطلب النادىء إذا ما هبط القحط بمرابعهم([121]). ومن هنا تكون عملية توجيه الأموال المذكورة قد تمت بإرسالها إلى وجاج نفسه وإلى من حوله من طلبة القبائل الداخلة في الحلف المصمودي، إضافة إلى أنهم زملاء ابن ياسين في رباط السوس قبل بدء أمر الدعوة ثم إذا شمولية اللفظ تلك هي ما يفسر مرور ابن ياسين عندما كان يوجه جيوش المرابطين في المغرب بمختلف القبائل التي تنتمي للحلف المصمودي وهي نفسها التي تجاوز له حتى مر بها وهوعائد من الأندلس ومن بينها قبيل مصمودة "الأصلي" وعندما رجعت جيوش المرابطين بقيادة أبي بكر بن عمر إلى سجلماسة اتجه ابن ياسين إلى القبائل التي كان قد مر بها سابقاً قبل الدعوة، لأن هذه المجموعة القبلية كانت جزءاً من الحلف المصمودي الواسع([122]). كما كان لابن ياسين، فيما مر بنا، سابق عهد في الاتصال بها وإلا لما استطاع حتى يجوس خلال ديارها منفرداً وأن يدعوها للالتحلاق بدعوته، أما المصامدة "الأصليون" فهم في سياق آخر يردون في«صفة قبائل المصامدة وقبائل بلاد تامسنا»([123])، وهي مجموعات عاد ابن ياسين إليها فاتحاً ومبشراً بالوحدة بعد حتى تذكر كما تقول الرواية ما كان قد هجرها عليه من فرقة وشتات، ولذا فإنه عندما انضم بهذه القبائل وجدها ترزح تحت الوطأة المأساوية نفسها فجدد لها التأكيد على حتى حروبها جاهلية([124]). حسب معيار الشرع الإسلامي وكان رد القبائل المعنية حتى تعللت بعامل التحاسد العصبي المستشري بينها([125])، غير أن الداعية وقد هجر وراءه جيوش المرابطين قد أصبح قادراً على دعوة المعنيين إل مشروع ملموس ولذلك فإنه عرض عليهم الالتحاق بصفوف الحركة وبين لهم مزاياها وورع قادتها وقد قبلوا منه ذلك فكان حتى عاد إلى أبي بكر بن عمر ليبشره بفتح بلاد المصامدة صلحاً([126]). إلى غير ذلك استطاع ابن ياسين حتى يحقق المشروع الذي تبلور في ذهنه قبل الدعوة المرابطية وهومشروع سياسي توحيدي ولم يكن أبداً مجرد انتداب من هذا الفقيه للدعوة في الصحراء من أجل إصلاح أمور صنهاجة وحدهم، وما كان له حتى يوفق في ذلك لولا ما خبره من أمور القبائل التي شكلت مجالاتها المسرح التقليدي لعمليات الجيوش المرابطية القادمة من الجنوب وهوما يفسر كون ابن ياسين قد توفي سنة (451 ه) وفي عهد مبكر من الحركة التي قادها، بعد أن تقدم في بلاد برغواطة، التي لم يكن له فهم بأخبارها فأطبق عليه البرغواطيون واستشهد قبل حتى يرى بعينيه نتيجة هذه المعركة الجهادية الحاسمة. ولعل هذا كان هوالخطأ "الاستراتيجي" الوحيد الطي ارتكبه هذا الداعية الفذ بعدما استطاع النجاح في مشروع التوحيدي الذي حبكه بعناية، ولعل التساؤل يبقى وارداً عما إذا كان لمتونة أنفسهم بناء على انتماء فقيههم ابن نفير إلى طبقة الفقهاء المرابطين ينتمون هم أيضاً إلى الحلف المصمودي الذي ارتبطت به الدعوة المرابطية من خلال مشروع ابن ياسين،يا ترى؟ ذلك ما ينبغي بحثه واستجلاؤه.*

المصادر

  1. ^ "الأصول الفكرية لدولة المرابطين". ديوان اصدقاء المغرب. 17/4/2012. Retrieved 9/6/2012. Unknown parameter |outhor= ignored (help); Check date values in: |accessdate=, |date= (help)
تاريخ النشر: 2020-06-04 11:06:38
التصنيفات: Pages with citations using unsupported parameters, CS1 errors: dates

مقالات أخرى من الموسوعة

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

آخر الأخبار حول العالم

رقم قياسي جديد للذهب مع تجاوز الأونصة 2300 دولار

المصدر: فرانس 24 - فرنسا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-04 12:06:57
مستوى الصحة: 92% الأهمية: 100%

ثلاث شركات تتنافس لتصنيع مركبة لنقل رواد ناسا على سطح القمر

المصدر: فرانس 24 - فرنسا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-04 12:06:57
مستوى الصحة: 88% الأهمية: 86%

دراسة توضح كيفية تأثير حمية الكيتو على الأمراض العقلية السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-04-04 09:24:57
مستوى الصحة: 55% الأهمية: 60%

إثيوبيا تحتفل بـ"سد النهضة" وتنشر صورة جديدة

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-04 12:07:09
مستوى الصحة: 94% الأهمية: 99%

ميانمار.. السلطات الأمنية تسقط سبع مسيرات فوق العاصمة

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-04 12:07:12
مستوى الصحة: 80% الأهمية: 86%

قمة نارية بين تشيلسي ومانشستر يونايتد فى الدوري الإنجليزي

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-04-04 09:23:18
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 38%

الدولار يتوقف عن التأرجح في مصر

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-04 12:07:10
مستوى الصحة: 88% الأهمية: 95%

75% من القراء يطالبون بتكثيف العمل لجذب استثمارات أجنبية جديدة لمصر

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-04-04 09:23:16
مستوى الصحة: 44% الأهمية: 50%

بينها عملات عربية.. أقوى العملات في العالم

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-04 12:07:15
مستوى الصحة: 86% الأهمية: 91%

تحدي «غينيس» بأكبر تجمع لأشخاص يحملون الاسم نفسه - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-04-04 09:24:51
مستوى الصحة: 48% الأهمية: 60%

لافروف حول "مسرحية بوتشا": نظام كييف يشعر بأن كل شيء مباح له

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-04 12:07:07
مستوى الصحة: 84% الأهمية: 86%

استمرار الحالة المطرية على 7 مناطق السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-04-04 09:24:56
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 56%

635 شخصا ما زالوا محاصرين بعد الزلزال في حديقة "تاروكو" في تايوان

المصدر: RT Arabic - روسيا التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-04 12:07:08
مستوى الصحة: 85% الأهمية: 99%

امتحانات رخصة السياقة .. تطور مهم في نسبة نجاح المترشحين

المصدر: أخبارنا المغربية - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-04-04 09:23:26
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 75%

عروض العيد.. معرض أهلا رمضان بالعمرانية يطرح كحك وبسكويت وملابس

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-04-04 09:23:20
مستوى الصحة: 44% الأهمية: 37%

pendik escort
betticket istanbulbahis zbahis
1xbetm.info betticketbet.com trwintr.com trbettr.info betkom
Turbanli Porno lezbiyen porno
deneme bonusu
levant casino levant casino levant casino levant casino levant casino levant casino
bodrum escort
deneme bonusu veren siteler
Bedava bonus casino siteleri ladesbet
deneme bonusu veren siteler
deneme bonusu
deneme bonusu
sex ki sexy
deneme bonusu
kargabet
تحميل تطبيق المنصة العربية