نظامية اللغة
نظامية اللغة
كما يبنى البيت من الطوب أوالخشب فإنّ اللّغة تتألف من أصوات يرسلها جهاز النطق، وتنقلها موجات الأثير، وتستقبلها الأسماع.ولا يقتصر جهاز النطق على الّلسان كما هوشائع، بل إنّ أعضاء النّطق الرئيسية هي منفاخ الرّئتين و القصبة الهوائيّة و الحنجرة ( الّتي تحتوي على الحبال الصّوتيّة ) و الّلسان و الأسنان و الشّفتان، وعندما نطلق على هذه الأعضاء تسمية جهاز النّطق فإنّ ذلك لا ينفي أنّها تقوم بوظائف أخرى تتصل ب جهاز الهضم وجهاز التّنفّس. وهذه الأعضاء قادرة على نطق جميع الأصوات في اللّغات، ولكن جميع حضارة اختصّت بعدد معين من الوحدات الصوتية المتميّزة بعضها عن بعض بسبب الإختلاف في مسقط النّطق وطريقته.
وعندما نقرر أنّ اللّغة تتألّف من مجموعة أصوات فإنّنا نخرج بذلك من دائرتها كلّ واسطة اتّصال أخرى لا تعتمد الصّوت مادة مكوّنة لها. فالنّظام الكتابي الّذي يتألّف من رموز مطبوعة أومكتوبةليس لغة وإنّما تمثيل للأصوات اللّغوية يتوقّف نجاحه وفشله على محاكاته للّغة المنطوقة وأمانته، وكذاك على بساطته وكماله واتّساقه، ومن هنا نستطيع المفاضلة بين النظم الكتابية، فنقول مثلا إنّ الكتابة الصّينية أصعب وأسوأ نظام كتابي، وإنّ هاتى اللغة الإنكليزية يليه في الرداءة وهكذا. وينطبق الأمر كذلك على ما يسمى ب "لغة الصّمّ" وهي إشارات منتظمة تؤديها أصابع اليدين للتفاهم مع "الصّمّ أولأذاعة نشرات الأخبار على شاشة التّلفزيون لهم، وما هذه اإشارات إلاّ استعاضة عن اللّغة المنطوقة، وليست لغة بالمعنى اللّغوي الإصطلاحي.
والخاصية الثانية هي أنّ اللّغة اعتباطية أواختياريّة تواضعَ على دلالالتها النّاطقون بها، ولهذا يعبّر عن المعنى الواحد في اللّغات المتابينة بأصوات مختلفة. وليست اعتباطية اللّغة وقفا على المفردات فحسب، بل للتّراكيب نصيبها أيضا. فترتيب عناصر الجملة لا يتّم وفقا للترتيب الأفعال الّتي تتحدّث عنها. واعتباطية اللّغة تؤكّد صفتها الإجتماعية وتشير إلى أنها تكتسب اكتسابا ولا تورث أوتأتي بالغريزة.
إنّ اللّغة بناء منتظم، وإذا تحدثنا عن نظاميتها فإنّنا نعني أنها تشكّل نظاما بكلّ مقوّماته الثلاثة الفهم وهي: البساطة والاتّساق والكمال.والحقيقة فإنّ السبب في نظاميّة اللّغة يعزى إلى كونها تتألّف من عناصر محدودة العدد تستخدم للتّعبير عن ماهيات ومضامين لا متناهية، ولهذا كان لا بدّ حتى تتكّرر تلك العناصر المرة تلوالأخرى بصورة متّسقة ومنتظمة دون حتى تسبّب إرباكا، فلولا نظامية اللغة لما استطاعة القياوبوظيفتها الإجتماعية كواسطة إتصال.
من جهة أخرى، فإنّ نظامية اللغة سمحت بتفسير السبب في عدم اعتبار جميع الأصوات التي تنتجها أعضاء النّطق، كالعطاس والنّحنحة والسّعال جزءا من اللّغة، لأن ّمثل هذه الأصوات لا تشّكل عناصر من النظام اللّغوي المتفق عليه. ومن مظاهر نظامية اللّعة أنّه بإمكان النّاطقين بها فهم التّركيب اللّغوي حتّى لوكان ناقصا، وذلك لإلمامهم بالنّظام وكيف من الممكن أن يسير، ولأنّ عناصر اللّغة داخلة غي نظام معلوم فإنه بإمكاننا حتى نصف أصواتها ومفرداتها وتراكيبها في طبقات متميّزة بخصائصها. فمن اليسير تصنيف المفردات مثلا إلى أساء وأفعال، وتصنيف التّراكيب إلى جمل إثباتية وجمل استفهامية، كما أنّ تحويل المفردات أوالتّراكيب من صيغة إلى أخلاى يتم طبقا لأسلوب معلوم.
إنّ الأصوات التي تتألّف منها اللّغة ليست مجرّد أصوات منطوقة بل هي رموز ذات معاني، والتعريف بالرمز هومن اختصاص فهم العلامات والعلامات هي حوادث وأشياء توجّه الانتباه إلى حوادث وأشياء أخرى أوتشير إليها. وقد يحدث ارتباط العلامات بالأمور طبيعيّا أوسببيّا، كما قد يحدث الإرتباط تواضعيّا، والأصوات اللّغوية تصنّف ضمن العلامات ذات الإرتباط التواضعي أوما يعهد ب الرموز التواضعية، ولكنّها تختلف عن بقية الرموز والعلامات في ناحيتين: الأولى، كون الرموز اللّغوية مبنية على تواضع اعتباطيّ محض، والثّانية هي أنّ اللّغة قادرة على وصل رموزها بكافة خبرات الإنسان وتصوّراته وجمبع أجزاء الكون ومحتوياته.
(عن علي القاسميّ)