مداراة

المداراة خُلُق وصفة محمودة، وبها وعليها تقوم وتستمر الكثير من العلاقات الإنسانية. فالبشر يعيشون ضمن مجتمعات، يتفاعل بعضهم مع بعض، وتتداخل حياتهم فيما بينهم، مما يقتضي تضاربًا في المصالح والرغبات، فتؤمن المداراة وسيلةً لتخطي شيئاً من هذا التضارب، فلولا مداراة الناس بعضهم بعضًا، لتبترت أوتوترت العلاقات والأواصر الأسرية، والاجتماعية والإنسانية، ولفشلت محاولات التعاون والترابط في جميع أوكثير من الأعمال والنشاطات.

والمدرارة في اللغة: مصدر دارى، ينطق: داريته مداراة: لاطفته ولاينته، ومداراة الناس: أي ملاينتهم وحسن صحبتهم واحتمالهم؛ لئلا ينفروا عنك . واصطلاحا: نطق ابن بطال: (المدَاراة: خفض الجناح للناس، ولين الكلام وهجر الإغلاظ لهم في القول) . ونطق ابن حجر: (المراد به الدفع برفق) .

المداراة في أقوال بعض الفهماء

- نطق الحسن البصري: (كانوا يقولون: المدَاراة نصف العقل، وأنا أقول هي العقل كلُّه) .

- ونطق معاوية رضي الله عنه: (لوأنَّ بيني وبين الناس شعرة ما انبترت، قيل: وكيف،يا ترى؟ نطق: لأنهم إذا مدُّوها خلَّيتها، وإن خلَّوْا مددتها) . - وعن عمر بن الخطاب نطق: (خالطوا الناس بالأخلاق، وزايلوهم بالأعمال) . - ونطق محمد بن السماك: (من عهد الناس داراهم، ومن جهلهم ماراهم، ورأس المدَاراة هجر المماراة). - ونطق عبد الله بن مسعود: (خالط الناس وزايلهم، ودينك لا تُكْلِمنَّه). - وعن وهيب بن الورد نطق: ( قلت لوهب بن مُنبِّه: إني أريد حتى أعتزل الناس. فنطق لي: لا بدَّ لك من الناس وللناس منك؛ لك إليهم حوائج، ولهم إليك حوائج، ولكن كن فيهم أصم سميعًا، أعمى بصيرًا، سكوتًا نطوقًا).

الفرق بين المدَاراة والمداهنة

نطق القرطبي في الفرق بينهما: (أنَّ المدَاراة: بذل الدنيا لصلاح الدنيا أوالدين أولهما معًا، وهي مباحة وربما استحبت. والمداهنة: هجر الدين لصلاح الدنيا) .
ونطق أبوحاتم رضي الله عنه الواجب على العاقل حتى يلزم المدَاراة مع من دفع إليه في العشرة، من غير مقارفة المداهنة، إذ المدَاراة من المداري صدقة له، والمداهنة من المداهن تكون خطيئة عليه، والفصل بين المدَاراة والمداهنة هوحتى يجعل المرء وقته في الرياضة؛ لإصلاح الوقت الذي هوله مقيم، بلزوم المدَاراة من غير ثلم في الدين من جهة من الجهات، فمتى ما تخلَّق المرء بخلق، شابه بعض ما كره الله منه في تخلقه فهذا هوالمداهنة؛ لأنَّ عاقبتها تصير إلى قلٍّ، ويلازم المدَاراة؛ لأنها تدعوإلى صلاح أحواله) .

ونطق ابن بطال: (المدَاراة مندوب إليها، والمداهنة محرمة، والفرق أنَّ المداهنة من الدهان وهوالذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسَّرها الفهماء بأنها معاشرة الفاسق، وإظهار الرضا بما هوفيه من غير إنكار عليه، والمدَاراة هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن عمله، وهجر الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما فيه، والإنكار عليه بلطف القول والعمل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحوذلك) .

ونطق الغزالي: (الفرق بين المدَاراة والمداهنة بالغرض الباعث على الإغضاء؛ فإن أغضيت لسلامة دينك، ولما ترى من إصلاح أخيك بالإغضاء، فأنت مدار، وإن أغضيت لحظِّ نفسك، واجتلاب شهواتك، وسلامة جاهك فأنت مداهن) .

شواهد المداراة في القرآن

-نطق تعالى: ﴿ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ (125الإسراء) - ونطق سبحانه: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى﴾ [طه: 43-47].

نطق ابن كثير: (هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهوحتى فرعون في غاية العتووالاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أُمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين) .

- ونطق تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾ [مريم: 41-47].

نطق السعدي: (وفي هذا من لطف الخطاب ولينه، ما لا يخفى، فإنه لم يقل: يا أبت أنا عالم، وأنت جاهل. أو: ليس عندك من الفهم شيء. وإنما أتى بصيغة تقتضي أنَّ عندي وعندك فهمًا، وأنَّ الذي وصل إليَّ لم يصل إليك ولم يأتك، فينبغي لك حتى تتبع الحجة وتنقاد لها) .

شواهد المداراة من السنة النبوية

- عن عروة بن الزبير، أنَّ عائشة بنت أبي بكر أبلغته أنَّه استأذن على النَّبي صلى الله عليه وسلم رجل، فنطق صلى الله عليه وسلم: ((ائذنوا له، فبئس ابن العشيرة أوبئس أخوالعشيرة. فلما ولج ألان له الكلام. فقلت له: يا رسول الله، قلت ما قلت، ثم ألنت له في القول. فنطق: أي عائشة، إنَّ شرَّ الناس منزلةً عند الله من هجره- أوودعه- الناس اتقاء فحشه)) .

(أي لأجل قبح عمله وقوله، أولأجل اتقاء فحشه، أي: مجاوزة الحدِّ الشرعي قولًا أوعملًا، وهذا أصل في ندب المدَاراة إذا ترتب عليها دفع ضرٍّ، أوجلب نفع، بخلاف المداهنة فحرامٌ مطلقًا، إذ هي بذل الدين لصلاح الدنيا، والمدَاراة بذل الدنيا لصلاح دين أودنيا، بنحورفقٍ بجاهلٍ في تعليم، وبفاسقٍ في نهيٍ عن منكر، وهجر إغلاظ وتألُّف، ونحوها مطلوبةٌ محبوبةٌ إذا ترتب عليها نفع، فإن لم يترتب عليها نفع، بأن لم يتقِ شرَّه بها كما هومعروف في بعض الأنام فلا تشرع) .

- ونطق صلى الله عليه وسلم: ((استوصوا بالنساء خيرًا؛ فإنهنَّ خلقن من ضِلع، وإنَّ أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن مضىت تقيمه كسرته، وإن هجرته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرًا)) .

نطق ابن حجر: (وفي الحديث المندوب إلى المدَاراة لاستمالة النفوس، وتألف القلوب، وفيه سياسة النساء بأخذ العفومنهنَّ، والصبر على عوجهنَّ، وأنَّ من رام تقويمهنَّ فاته الانتفاع بهن، مع أنه لا غنى للإنسان عن امرأة يسكن إليها، ويستعين بها على معاشه، فكأنَّه نطق: الاستمتاع بها لا يتمُّ إلا بالصبر عليها) .

- ونطق صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس اتقوا الله، وإنْ أُمِّر عليكم عبد حبشي مجدَّع، فاسمعوا له وأطيعوا، ما أقام لكم كتاب الله)) .