أصدقائي شلة الفكر الإنساني .. زرادشت ألف عام ق.م.. (2)
أصدقائي شلة الفكر الإنساني .. زرادشت ألف عام ق.م.. (2)
هكذا علمنا زرادشت أنه ليس هناك إلا وطن واحد وإله واحد وإنسان واحد, ولكي نفهم الله ونعرفه يجب أن نفهم إخوتنا في الإنسانية, وفي طريقنا إلي هذا الفهم نمر بعدد من علامات الطريق تشير إلي هدفنا. ومن أهم هذه المعالم: العدالة والتعاون والإيمان والسعي وراء الكمال, وتنحصر فكرة زرادشت عن العدالة في التخلص من الخطأ عن طريق المعرفة الحقة لكل ما هو صواب, والنور الذي يكشف عن هذه المعرفة أن هو إلا التناسق الأبدي الإلهي, فإن تعرف الحق, تعرف الله. وما العالم أجمع إلا نسيج حي ينسق طريقه متجها إلي الإله الحق. ويستطيع الإنسان أن يتحد مع الله باتباع الحق الأسمي, قانون العدالة. أول علامة في الطريق إلي معرفة الله هي نور العدالة اللامع الذي تغذيه نار الحق. أما ثاني الطريق إلي معرفة الله فهو التعاون, ويقول زرادشت في ذلك: حياتنا كلها إن هي إلا رحلة جريئة نقوم فيها بخدمة بعضنا بعضا. أما العلامة الثالثة علي طول الطريق المؤدي إلي الله فهي الإيمان, وليس الرجل المؤمن إلا ذلك الذي وصل إلي أذنيه صوت الله الهامس. ويغرس الله في قلب مثل هذا الإنسان غريزة الولاء, لبيته ومجتمعه ووطنه والعالم أجمع.
ويشرح زرادشت ذلك في كلمات أخري فيقول: وما إيمان الإنسان بالله, إلا حبه للجنس البشري. ويقصد ما هو وماذا من ذلك حب جميع البشر في حبه الشامل الجامع. ولكي تظهر إيمانك بالله إن أحسن السبل هي أن تقتدي بحبه, فحرارة الحب سوف تذيب كل شك في قلبك, لكن هذا الحب وهذا الإيمان, يجب أن يكون إيجابيا لا سلبيا, فيجب أن يظهر في صورة أعمال, لا مجرد أفكار أو كلمات. ونأتي للعلامة الثالثة في الطريق إلي الله طبقا لزرادشت وهي الإيمان العملي الفعال خلال أعمال المحبة.
أما العلامة الرابعة في الطريق إلي الله فهي السعي وراء الكمال, وهذه في الحقيقة هي الغرض من الخليقة ومعني الحياة, والحق أن السعي وراء الكمال بكل جوانبه الحب العملي والعدالة والرحمة والتعاون والمشاركة هو جوهر تعاليم الفيلسوف الذي أحبه الناس لحبه لهم والعمل من أجلهم, بل وتوصيته أن يحبوا بعضهم بعضا, فقد عاش دائما في حالة تأمل ووضع أمامه سؤالا هو كيف نتخلص من المشاكل الكثيرة التي تقابل الناس؟ ثم كانت نتيجة تأملاته أن قال: إن الواقع أن العبء يقع علينا وحدنا كاملا, ذلك لأننا نريد أن يكون عالمنا عالما كاملا مثاليا سعيدا. هذا هو الهدف الرئيسي لحياتنا علي الأرض.
ويجرنا هذا الحديث عن نظرية زرادشت المعروفة عن الصراع بين الخير والشر, وما نحن إلا جنود مجندون مدي الحياة في هذا الصراع, وقد أراد الله أن نحارب إلي جانبه لنجعل من العالم شيئا أفضل ونبطل الشر.
ويشرح زرادشت حكاية الخير والشر فيقول: إن العالم هو ساحة قتال بين أهورامازدا, روح النور وأهريمان, قوة الظلام. ولكل من النور والظلام والخير والشر أهميته في جعل نمط الكون كاملا. فعالم من غير شر يستحيل وجوده تماما كحياة من غير ألم, ولا يجعل الحياة مثيرة جذابة إلا عنصر التنافر بين الاثنين.
وتنحصر قيمة الخير في الانتصار علي الشر تماما, كما تنحصر قيمة الصحة في الانتصار علي الألم, فكيف يمكننا أن نستمتع بالراحة إن لم تكن لنا قسط خبرة بالعمل؟ أو كيف يمكننا أن نتذوق جمال النهار إن لم نعرف قط وهبة الليل؟ وليس لحياة النور من غير ظلام طعم أكثر لذة من حالة الأحياء الموتي.
ولا يملأ حياتنا نشاطا وحماسة إلا كفاحنا للخروج من الظل إلي النور, وفي عبارة أخري لا يجعل لحياتنا طعما أو معني إلا روح الظلام والإنكار والفوضي.
وينحصر معني الحياة في محاولاتنا هزيمة ظلام العالم وإنكاره والفوضي التي تسوده, وطبقا لزرادشت, إن الله يوصينا بأن نحول الشر إلي خير, ويضع الله في طريقنا العقبات حتي تصبح رحلتنا عبر الحياة أقل تفاهة وأكثر قيمة, وإذا أردنا أن نعبر عن ذلك بلغة عصرنا الشائعة قلنا إننا نأتي إلي الحياة لنجعل من العالم مكانا أفضل نعيش فيه.
ويشرح زرادشت ذلك أكثر فيقول: إننا جميعا عامل في بستان الله ويتعامل الله معك ومعي لنخرج من الفوضي إلي نظامات ومن القبح جمالا, ومن الحرب سلاما, ونحن في كل ذلك نبني مصيرنا.
ويضيف زرادشت إلي ذلك فكرة جديدة مهمة هي أنه تنتهي مهمتنا في الحياة فسيدعي كل منا ليقدم حسابا عن عمله, فأما الذين فشلوا في حياتهم ولم يؤدوا واجباتهم من أفكار جميلة وكلمات طيبة, وأعمال صالحة, فينالون عقابهم عما ارتكبوه من ذنوب في حياتهم بعد الموت. وما هذا العقاب النهائي لكل ذنب إلا جزء من رأي زرادشت عن عالم يتجه نحو التآلف, نحو موضع تقوم فيه الأخطاء في النهاية.
ثم يوضح زرادشت في النهاية أنه ما من عقاب يستمر توقيعه إلي الأبد, ففي النهاية بعد أن نوفي ديوننا الواجبة الأداء تندمج مصائرنا المتحدة في نسيج كامل متآلف نقي خير لأننا نثق أن الخير بطريقة ما سيكون الهدف الأخير للشر.
يقول زرادشت: عندما يصلي الناس إلي الله قائلين: نجنا من الشر. يجيبهم: نجوا أنفسكم من الشر, إن عملنا معا, أعاونكم وتعاونوني, سوف يتحول العالم إلي جنة تضم النفوس النبيلة.
من الطبيعي أن يتناول المفكرون المعاصرون لزرادشت فلسفته ومذهبه بالنقد والدراسة, لكن معظمهم رحب بالفكر الإنساني المستنير والإيمان بالله الذي أبداه زرادشت في مذهبه ومدرسته, أما الذين هاجموه ولم يرحبوا به فهم قلة بعينها وعلي رأسهم الشاعر والفيلسوف: فريدريك فيلهيلم نيتشة الذي عاش بين السنوات 1844-1900, وكان هجومه عظيما, بل وألف كتابا تحت عنوان: هكذا تكلم زرادشت.
المشكلة أن نيتشة هذا لم يقدم أفكار زرادشت كما هي, أو حاول أن ينقد بعضها, بل حاول أن يقدم في كتابه كل ما هو عكس أفكار زرادشت, ولوي فلسفته لتقديم كل ما هو عكسها تماما. ومن عجب أن كتاب نيتشة لاقي رواجا كبيرا, وقد وجد زرادشت من يدافع عنه دفاعا مجيدا, وهو الكاتب المصري الكبير سلامة موسي في كتابه هؤلاء علموني, إذ فند كل كلام نيتشة وأثبت أنها كلمات مغرضة, والأهم من ذلك أن سلامة موسي أثبت أن نيتشة إنسان مريض نفسي وعقلي, وكانت سنواته الأخيرة في المستشفي حيث يعالج عقليا ونفسيا.
ومن عجب أن قلب نيتشة عقيدة زرادشت من جهاد يشترك فيه الله مع الإنسان ضد الشيطان, إلي مؤامرة يشترك فيها الشيطان مع الإنسان ضد الله.
لاشك أن زرادشت كان أحد المفكرين العظماء للبشر الأوائل وقد لقي -للأسف- ما يلقاه كبار المفكرين من مصير أسوء, فمن المحتمل أن يكون قد أعدمته حرقا جماعة من المتعصين, أشعلوا النار في بيته.
