كان الجينوم البشري يخفي سراً فهو مليء بالعقد. وقد نجحت دراسة جديدة في رسم خريطة لأكثر من 50 ألف منطقة تتشابك فيها الحمض النووي في هياكل معقدة تسمى «العقد»، وهو ما يكشف عن بُعد جديد للتنظيم الجيني. ويؤدي هذا الاكتشاف إلى إحداث ثورة في فهمنا لكيفية تنظيم الجينات ويؤدي إلى مناهج جديدة لعلاج الأمراض.

على مدى عقود من الزمن، كان العلماء يعرفون أن الحمض النووي عادة ما يكون على شكل حلزون مزدوج، وهو الهيكل الملتوي الشهير الذي وصفه واتسون وكريك. ومع ذلك، يكشف هذا البحث الجديد أن بعض أقسام شفرتنا الوراثية يمكن أن تتخذ شكلًا أكثر غرابة، حيث تنطوي على نفسها لتكوين عقد مكونة من أربعة خيوط.

العجائب المعملية


كان يُعتقد ذات يوم أن هذه الهياكل ذات الشكل i، التي سُميت بهذا الاسم بسبب نمط طيها غير المعتاد، من العجائب المعملية التي لا يمكن أن توجد في الخلايا الحية. وكانت الحكمة التقليدية تقول إنها تتطلب ظروفًا حمضية غير متوافقة مع الحياة. ومع ذلك، فقد أظهرت التطورات الحديثة أن الهياكل ذات الشكل i يمكن أن تتشكل في ظل ظروف فسيولوجية، والآن توضح هذه الدراسة مدى انتشارها في جميع أنحاء الجينوم البشري.

خريطة الهياكل

بقيادة باحثين من معهد جارفان للأبحاث الطبية في أستراليا، طور الفريق طريقة جديدة لرسم خريطة لهياكل i-motif عبر الجينوم البشري بأكمله. استخدموا جسمًا مضادًا مصممًا خصيصًا يتعرف على i-motifs ويرتبط بها على وجه التحديد، مما يسمح لهم باستخراج هذه الهياكل من الحمض النووي البشري النقي.

كانت النتائج التي نشرت في مجلة The EMBO مذهلة. فقد حدد الباحثون أكثر من 50 ألف منطقة قادرة على تكوين أنماط i عبر عينات الحمض النووي من ثلاثة خطوط خلايا بشرية مختلفة. وتم العثور على هذه الهياكل في جميع أنحاء الجينوم، في أجزاء مختلفة من الجينات والمسافات بينها.

الوظيفة الجينومية

يقول المؤلف الرئيسي دانييل كريست، رئيس مختبر العلاج بالأجسام المضادة ومدير مركز العلاج المستهدف في جارفان، في بيان: «هذا رقم مرتفع بشكل ملحوظ بالنسبة لبنية الحمض النووي التي كان وجودها في الخلايا يعتبر مثيرًا للجدل ذات يوم». «تؤكد نتائجنا أن العناصر النمطية ليست مجرد فضول مختبري ولكنها منتشرة على نطاق واسع - ومن المرجح أن تلعب أدوارًا رئيسية في الوظيفة الجينومية».

نشاط الجينات

ماذا تفعل هذه الهياكل الأوريجاميية الغامضة للحمض النووي في الواقع؟

تقدم الدراسة أدلة دامغة على أن العناصر النمطية تلعب دورًا مهمًا في تنظيم نشاط الجينات. تميل هذه العناصر إلى التواجد بالقرب من مواقع بداية الجينات وتكثر بشكل خاص في الجينات التي تصبح نشطة خلال المراحل المبكرة من دورة الخلية عندما تستعد الخلايا للانقسام. إن هذا الارتباط بتنظيم الجينات مدعوم بحقيقة أن العناصر النمطية تتداخل غالبًا مع عناصر تنظيمية أخرى معروفة في الجينوم. على سبيل المثال، غالبًا ما تحدث بالقرب من نوع آخر من بنية الحمض النووي غير العادية تسمى رباعيات الجينوم، والتي تم بالفعل ربطها بالتحكم في التعبير الجيني. إن فهم كيفية مساهمة العناصر النمطية في تنظيم الجينات قد يوفر رؤى جديدة في العمليات البيولوجية الأساسية وآليات المرض. ويفتح أيضًا آفاقًا جديدة لتطوير الأدوية، حيث يمكن استخدام الجزيئات التي تستهدف العناصر النمطية أو تتلاعب بها للتحكم في نشاط الجينات في السياقات العلاجية.

العناصر النمطية

تقول سارة كومرفيلد المؤلفة المشاركة في الدراسة والمسؤولة العلمية الرئيسية في شركة جارفان: «إن الانتشار الواسع النطاق للعناصر النمطية بالقرب من هذه التسلسلات المهمة التي تشارك في علاج أنواع السرطان التي يصعب علاجها يفتح آفاقًا جديدة لأساليب تشخيصية وعلاجية جديدة. وقد يكون من الممكن تصميم عقاقير تستهدف العناصر النمطية للتأثير على التعبير الجيني، وهو ما قد يؤدي إلى توسيع خيارات العلاج الحالية». كما يسلط البحث الضوء على الطبيعة الديناميكية لمادتنا الوراثية. فبعيداً عن كونها مخططاً ثابتاً، يبدو أن الحمض النووي عبارة عن جزيء متغير الشكل قادر على تبني أشكال مختلفة لضبط وظيفته. وهذا يضيف طبقة أخرى من التعقيد إلى الرقصة المعقدة بالفعل بين الجينات والبروتينات التي تنظم الحياة. وكما هي الحال مع أي تقدم علمي كبير، فإن هذا الاكتشاف يثير العديد من الأسئلة بقدر ما يجيب عليها. كيف تتشكل وتتحلل العناصر الجينية في الخلايا الحية بالضبط، ما هي البروتينات التي تتفاعل معها، كيف تتغير في أنواع مختلفة من الخلايا أو حالات المرض؟ لا شك أن هذه الأسئلة ستقود البحوث المستقبلية في هذا المجال الجديد المثير. إن اكتشاف العناصر الجينية المنتشرة في الحمض النووي البشري يفتح فصلاً جديدًا في فهمنا لعلم الوراثة وقد يؤدي في نهاية المطاف إلى مناهج جديدة لتشخيص وعلاج مجموعة واسعة من الأمراض.