وضع التقرير الأسود الذي أصدره المجلس الأعلى للحسابات بجهة الرباط من جديد موضوع “توظيف الأشباح” في الواجهة بعدما رصد عدة توظيفات مشبوهة بجماعة المدينة ذاتها، مسلطا الضوء على وجه آخر من وجوه استغلال المالية العمومية، الذي يعتبر حجر عثرة أمام التنمية المحلية.
وبات يتوجس أغلب الجماعات من التقارير المنجزة من طرف مجالس الحسابات على صعيد الجهات، حيث يعد موضوع “توظيف الأشباح” أو “التوظيفات غير القانونية” من المواضيع الأكثر تداولا بين الفعاليات المهتمة بحماية المال العام والأكاديميين الذين يتابعون عن كثب المستجدات المعقدة لهذا الملف.
في هذا الحوار المكون من ثلاث أسئلة، يجيب رشيد لبكر، أستاذ القانون العام بكلية الحقوق بالجديدة، عن أسئلة “الأيام 24” حول التطورات التي كشفها التقرير الذي أعده المجلس الأعلى للحسابات بالعاصمة الإدارية، رسما الطريق الذي يسلكه المتجاوزين بهدف عرقلة التنمية بالجماعات.
وفيما يلي نص الحوار كاملا:
1- بداية وفي سياق ما ذكره التقرير الصادر عن المجلس الجهوي للحسابات بالرباط، ما هي قراءتك حول توظيف الأشباح في الجماعات الترابية؟
لابد من الإشادة بالدور الرقابي الذي تمارسه المجالس الجهوية للحسابات من أجل تطهير القطاعات التي تدار بالمال العام، فهذا دورها الأساسي، وأرجو أن يكون لهذه التقارير ما بعدها، لاسيما بعد تمكين المعنيين بالتجاوزات من فرصة للرد، فإذا ثبتت التهم، يجب المرور إلى المرحلة الثانية لإنفاذ القانون وإنزال العقاب، حتى يكون لهذه التقارير دور وجدوى في إعادة الهيبة للمرفق العام وتحقيق مبدأ الردع، كي تمضي بلادنا في اتجاه محاربة الفساد الذي يعرقل عجلة التنمية ويهدر الكثير من إمكاناتها دون وجه حق.
فطامة الطامات وأم الكوارث تتجلي في وحش الفساد، هذا الحوت الذي يمتص شرايين الإدارة والاقتصاد. من هنا، أعتقد ان مشكل الموظفين الأشباح ليست ظاهرة جديدة ولا غريبة عن ساحة التدبير العمومي ببلادنا، وهي في الجماعات الترابية، نتاج لانحراف الممارسة السياسية وأحد الآثار الدالة على فساد العمليات الانتخابية، التي يكون أهداف بعض من أبطالها.
مع الأسف، تحقيق المصالح وجلب المنافع “لهم ولذويهم ولكل من هو عزيز عليهم”، ومن ذلك، السطو عل فرص التوظيف وتوجيهها لفئات معينة ضد مبدأ الاستحقاق وتساوي الفرص في إطار نوع من مقايضة الصوت بالوظيفة، أو ك”هبات” لشراء الذمم وصناعة المواقف، فلهذه الغاية، تمنح الوظائف بعد المباريات الصورية، أو يتم غض الطرف عن بعض الموظفين الذين يتقاضون أجورا بلا عمل، من زمرة الأشباح الذين لا وجود لأسمائهم إلا في قوائم الأجور …مع الإشارة إلى أن الأمر يكون أكثر تعقيدا في الجماعات الكبيرة (من حيث المساحة وعدد الساكنة)، سواء منها التي تسير بنظام وحدة المدينة، المكون من مجلس جماعي واحد مآزر بنظام المقاطعات، أو التي تسير بنظام جماعي واحد بعد حذف الجماعات الحضرية والمجموعة الحضرية ( أي بدون مقاطعات).
فهذه الجماعات، ونتيجة للعدد الهائل من الموظفين العاملين بإداراتها والموروث عن النظام السابق ( قبل التوحيد)، ونظرا أيضا لكثرة المرافق والمديريات والأقسام، يكون من السهل على مقتنصي الفرص إيجاد منفذ للتوظيفات المشبوهة أو التستر على الموظف الشبح، وبالتالي، لدي اعتقاد بأن ما كشف عنه تقرير المجلس الجهوي مجرد غيض من فيض، وما ورد فيه من معطيات مجرد دقة ناقوس “رسمية” للفت الانتباه إلى الظاهرة، وبأنها ما زالت موجودة إن لم تكن قد استفحلت، وبالتالي يجب المرور إلى مستويات أخرى من المراقبة والتطهير تتدخل فيها لجان التفتيش التابعة لوزارتي الداخلية والمالية لحقن النزيف الذي مازال قابلا للطي والعلاج رغم صعوبة الحالة واستفحالها مع الأسف.
2- كيف تؤثر مثل هذه التوظيفات المشبوهة على التنمية المحلية؟
الفساد دائما له انعكاسات مدمرة، في البيئة الطبيعية وفي البيئة المهنية وفي البيئة الإدارية وحتى في البيئة البشرية. الفساد فساد، يعني إخراج الأشياء عن مسارها الطبيعي. الفساد إذا ألم بالجماعات الترابية استنزف كل إمكانياتها المادية وتركها تدور في مكانها.
تخيل أنه، وعوضا على توجيه الجماعات الترابية النسبة الأكبر من ميزانيتها نحو الشق المتعلق بالاستثمار العمومي، أي خلق مشاريع تعود بالنفع والفائدة على الساكنة والمجال، تصبح بدلا عن ذلك، ” مضاربة غير مع ميزانية التسيير”‘، أي توجيه الميزانية لتغطية جيش الموظفين مع ما يستتبع ذلك من نفقات على كل موظف والمكتب الذي يشتغل فيه (المفروض طبعا أنه يشتغل فيه وليس شبحا).
طبعا نحن لا نتكلم عن الموظفين العاملين والمؤدين لمهامهم بكل ما يعنيه الأمر من تضحية ونكران للذات، ولكننا نتكلم عن هؤلاء الموظفين الأشباح الذين يقتاتون بجهد غيرهم ويرتقون في المناصب بأيادي حافية، وبظني أن أكبر المتضررين من هؤلاء هم الموظفين العاملين أنفسهم، الذين يشعرون بالغبن والحيف وباختلال موازين الاستحقاق، وهو اختلال لن يسقط أثره إلا على وضعهم المهني مع الأسف، لأن من دخل “بالوساطة” أو “من يتقاضى أجرا بلا عمل” لن تعدمه المسالك للترقي المهني بأيسر الطرق. هو يترقى، وغيره من الموظفين يتجرع الخيبة وضيم المهانة والشعور بـ”الحكرة”.
فكيف نريده إزاء هذه الأجواء المشحونة بأن يكون منتجا وفعالا؟ من سيتحمل آثار هذه الطاقة السلبية العارمة؟ أكيد ستتحملها الجماعة/ المرفق في آخر المطاف، التي سيكون عليها تحمل عبء هؤلاء “الساقطين عليها بلا سبب موضوعي” وتحمل أجورهم و مداراة الأجواء التي ستعم في العمل بسببهم، فعن أي تنمية محلية سنتكلم بعد ذلك؟.
يؤسفني القول أن هذا واقع تشهده العديد من الجماعات الترابية ببلادنا اليوم، أما الحل في نظري، فيكمن في إجراء افتحاص حقيقي ودائم، يُحصى على ضوئه عدد الموظفين، ويحدد لكل واحد جدوى وجوده وفق قاعدة “من يفعل ماذا؟”، كما تحدد بشكل منهجي ومضبوط، الاحتياجات الحقيقية لأي جماعة من عدد الموظفين، بعدها تدبر استراتيجية الاستغناء على الفائض أو إعادة توزيعه، ولا يفتح باب جديد للتوظيف إلا بعد توصيف دقيق للوظيفة، والحاجة الماسة لها والبروفايل المناسب لها، دون أن ننسى ضرورة الإسراع بنظام أساسي جديد لموظفي الجماعات الترابية يعيد لهذه الشريحة اعتبارها وفق مبدأي العدالة والاستحقاق، فلا أجل بلا عمل ولا عمل بلا مباراة ولا ترقي بلا استحقاق وإنتاجية.
3ـ هل أصبح ملزم على جميع المجالس الجهوية للحسابات تقديم تقارير خاصة بهذا الوضع ؟
المجالس الجهوية للحسابات تنجز تقريرها وفق القانون المنظم لتدخلاتها ولها برنامجها واستراتيجيتها حسب الإمكانات البشرية واللوجيستية المتاحة لها، والتقارير التي تصدر هي على غاية من الأهمية وكثيرا ما وضعت الجرح على مكامن الداء، لكن السؤال الحقيقي، يحب توجيهه إلى من يلزمه تتبع هذه التقارير والتعامل بحزم مع ما تتضمنه مقتضياتها، إصلاح ما فسد بعد فضح الفساد ومعاقبة المفسدين الذين تأكد فسادهم ليس من مسؤوليات هذه المجالس.
