في معنى الإعتراف


تأخذنا كلمة الإعتراف في أكثر من اتجاه، فهي ترتبط بمكنون ما، قد يكون ذنبا أو جرما أو سرا أو حتى تعبيرا عن مشاعر أو شواغل، وهذا عندما يكون الاعتراف اعترافا بذنب أو جرم أو سر، ولكن للاعتراف جوانب أخرى، عندما نريد أن يُعترف بنا وهنا يرتبط الأمر بالذات والقيمة والمكانة والاحترام. وهكذا فإن للاعتراف أكثر من وجه، فهو طقس ديني، وهو إجراء قانوني، وهو قيمة اجتماعية. نستخدم فى لغتنا العربية “كلمة” اعتراف للتعبير عن معان متعددة، إلا أن الاعترافات لها ألفاظ متعددة فى اللغة الإنجليزية فثمة فرق بين الاعتراف (Confession)، (Recognition)، و(Acknowledgement). ونستعرض فى هذا المقال دلالات كل كلمة، وأبعادها الدينية والقانونية والاجتماعية. ولا يغيب عنا اختلالات “الاعتراف”، وهي اختلالات تفتح الباب واسعا أمام الظلم والعنف والكراهية.

بداية، يرتبط الاعتراف، كطقس ديني، بطلب المغفرة، فالتوبة تقتضي من المذنب الإقرار بالذنب أو الخطيئة، وهذا مبدأ عاما فى جميع الأديان، فعلي المذنب الاعتراف بالذنب والتكفير. وبالمعني الاجتماعي والأخلاقي فإن الأديان تحض على فضيلة الاعتراف، على أساس أن “الاعتراف بالحق فضيلة”. ومع ذلك، فإن الاعتراف فى الديانة المسيحية له خصوصيته، فهو طقس يتجاوز الخلاص الشخصي إلى الخلاص الجماعي. ففى كتاب “التاريخ الطقسي لسر التوبة و الاعتراف” للراهب القس اثناسيوس المقاري، نقرأو ما يفيد بأن “الغاية من الاعتراف “هي عودة التائب إلى شركة الجماعة، بعد أن انفصل عنها بالخطيئة…” فالجماعة حاضرة بوصفها معنية بخطأ الفرد وتوبته، وكان الاعتراف فى السابق علنيا على الجماعة كلها. وهنا نفهم مغزى الاعتراف ليس فقط كفعل توبة شخصي ولكن كطقس ديني يرتبط فيه الفرد بالجماعة ويتحمل المسؤلية الأخلاقية والدينية أمامها.

وإنطلاقا من هذا البعد الديني، فقد تم الربط بين الاعتراف والحضارة الغربية، ليس فقط كطقس ديني مسيحي، ولكن كنظام أشمل ارتبط بمسارات انتاج المعرفة فى الغرب، وفى مقدمتها التحليل النفسي باعتبار أن “البوح” يعد أحد مظاهر الاعتراف، فهو طقس يشبه الطقس الديني، وإن كان هناك اختلاف بين المحلل النفسي فى العيادة وأب الاعتراف فى الكنيسة. ولذا يري البعض أن انتشار وتقبل التحليل النفسي فى المجتمعات الغربية، مقارنة بالمجتمعات الشرقية، يعود إلى تلك الصلة التاريخية بين التحليل النفسي وطقس الاعتراف. ويذهب المفكر الفرنسي ميشيل فوكو أبعد من ذلك، حيث يعتبر أن الاعتراف سمة للحضارة الغربية تميزها عن الحضارات الأخري، فمنذ القرون الوسطي أصبح الاعتراف وسيلة لإنتاج “الحقيقة”، فيقول فى كتابه “إرادة المعرفة”: “منذ ذلك الحين أصبحنا مجتمعا اعترافيا بصفة متخصصة. فقد نشر الاعتراف آثاره بعيدا: فى القضاء والطب والتربية، فى العلاقات العائلية والعاطفية، فى النظام اليومي وفى الطقوس الأكثر احتفالية. يعترف كل منا بجرائمه وخطاياه، بأفكاره ورغباته، يعترف بماضيه وأحلامه وطفولته، يعترف بأمراضه ومصائبه.. لقد أصبح الإنسان فى الغرب حيوان اعتراف”.

وثمة حلقة وصل بين الإعتراف القانوني والاعتراف الديني، من حيث أنهما إجراء للاقرار بالجرم أو الذنب، ولكن الاعتراف القانوني لا يفضي إلى العفو ولا يعني التوبة، حتى لو أنه ارتبط أحيانا بعفو ما أو تخفيف العقوبة، فالاعتراف القانوني يُعرف بأنه بينة ودليل، ويُنظر إليه على أنه “سيد الأدلة”. وكان الاعتراف بالمعني القانوني وسيلة لإثبات أو بالأحرى إلصاق الجرم بشخص ما، ولذا فإن تاريخه فى المجال الجزائي مظلم وشائن، وهذا ما يذكره ميشيل فوكو فى نصه السابق حيث يقول أن الاعتراف “منذ القرون الوسطى، يرافقه التعذيب كظله… الاعتراف والتعذيب توأمان أسودان..” وفى ظل حكم القانون فإن أى اعتراف يأتي نتيجة لإكراه لا يعتد به، ولكن العلاقة بين الاعتراف والإكراه مازالت موجودة. وللاعتراف القانوني أنواعا متعددة، فالشائع هو الاعتراف الجزائي أى إقرار المتهم أمام الشرطة أو القضاء بصحة واقعة محتج بها ضده، وهذا الإقرار يعد بينة متروكة لتقدير القاضي. ولكن إلى جانب ذلك ثمة أشكال أخرى من الاعتراف لها توصيفات قانونية خاصة مثل الاعتراف المشروط، والاعتراف غير القضائي والاعتراف الموصوف وغيرها.

وإذا خرجنا من دائرة الإعتراف بالذنب أو الجرم (Confession)، إلى الاعتراف بالفرد أو الجماعة (Recognition)، أى أن يُعترف بنا كذوات إنسانية وحقوقية، فإننا ننتقل إلى دلالات أخري ومفاهيم أخري كالثقة والإحترام والتقدير. وهنا تؤكد الأدبيات المختلفة على أن الإعتراف مكون أصيل فى التفاعلات الاجتماعية، وتشكيل الذات وبناء الهويات والصراع من أجل نيل الحقوق أو المكانة. ومن الأعمال البارزة فى هذا المجال كتابات الفيلسوف الألماني أكسل هونيث، ومنها كتاب “التشيوء: دراسة في نظرية الاعتراف”، ترجمة د. كمال بومنير ، وهنا نشير إلى فكرة محورية حول النماذج المعيارية للاعتراف في التفاعلات الاجتماعية، وهي: الحب، والحق والتضامن.

فمن ناحية أولي يشكل “الحب” علاقة تفاعلية يتم بموجبها الاعتراف المتبادل على مستوى العاطفة والمشاعر، وتحقق للفرد نوعا من الثقة بالذات أو ما يسميه الكاتب “الأمن العاطفى” وتشكل العلاقة بين الطفل وأمه النموذج الأولي لهذه العلاقة التفاعلية؛ ومن ناحية ثانية، نموذج الحق أو “الاعتراف القانوني” وهو الذي يضمن للأفراد الاستقلالية والحقوق الشخصية، وهذا النمط من الاعتراف يحقق “احترام الذات” وضمانة العيش بكرامة فى ظل دولة القانون؛ ومن ناحية ثالثة، هناك نموذج “التضامن” بمعنى الاعتراف الاجتماعي بالفرد ومبادلة هذا الاعتراف مع الذوات الاجتماعية الأخري، وهو ما يحقق “احترام الذات”. وهذا الاعترافات بما توفره من ثقة واحترام وتقدير مترابطة ومرغوبة، ومن دونها يشعر الفرد بالضعف والاحتقار والتهميش، وهي ما يصيب الكرامة الإنسانية، ويفضي إلى السيطرة والإقصاء ومن ثم تفشي العنف والتفكك الاجتماعي، حيث يسعى من فقد الثقة والاحترام والتقدير إلى مبادلة الذوات الاجتماعية العداء والكراهية، بل يصل الأمر إلى حد كراهية الذات.

إذا كان الإعتراف بالحق فضيلة، فمن حق كل فرد أن يُعترف به وبها، فالاعتراف فضيلة اجتماعية، وقيمة نتبادلها فيما بيننا تقديرا واحتراما، وإذا ما انخفضمنسوب التقدير والاحترام وجفت منابعه، تطفو على السطح مظاهر العنف والكراهية، وندفع ثمنها غاليا عندما تصبح سبيلا لإثبات الذات والتعويض عن المكانة المفقودة والذات المسلوبة.

تاريخ الخبر: 2024-08-26 09:21:59
المصدر: وطنى - مصر
التصنيف: غير مصنف
مستوى الصحة: 46%
الأهمية: 63%

آخر الأخبار حول العالم

شركة آيكوم اليابانية تُحقق في انفجار أجهزتها اللاسلكية بلب

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-09-19 06:22:42
مستوى الصحة: 45% الأهمية: 60%

قائمة غرامات مترو الأنفاق تبدأ من 50 جنيهًا وتصل لـ1000.. انفوجراف

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-09-19 06:22:16
مستوى الصحة: 40% الأهمية: 46%

موعد مباراة الزمالك أمام الشرطة الكينى في الكونفدرالية

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-09-19 06:22:19
مستوى الصحة: 36% الأهمية: 41%

ترامب يتهم الاحتياطي الفيدرالي بعد خفض الفائدة.. ماذا قال؟

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-09-19 06:22:36
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 60%

احذر.. التحايل للحصول على سيارة ذوى الإعاقة يعرضك للغرامة وسحب الرخصة

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-09-19 06:22:21
مستوى الصحة: 39% الأهمية: 37%

آيكوم اليابانية تكشف تفاصيل جديدة بشأن جهاز "البيجر".. ماذا

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-09-19 06:22:30
مستوى الصحة: 54% الأهمية: 57%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

pendik escort
betticket istanbulbahis zbahis
1xbetm.info betticketbet.com trwintr.com trbettr.info betkom
Turbanli Porno lezbiyen porno
deneme bonusu
levant casino levant casino levant casino levant casino levant casino levant casino
bodrum escort
deneme bonusu veren siteler
Bedava bonus casino siteleri ladesbet
deneme bonusu veren siteler
deneme bonusu
deneme bonusu
sex ki sexy
deneme bonusu
kargabet
تحميل تطبيق المنصة العربية