مريـم العذراء.. سيدة الكرمل


‎تحتفل الكنيسة الجامعة بعيد سيدة الكرمل، سيدة الثوب، في ١٦يوليو من كل سنة في العالم . كما تحتفل الأديار الكرملية والكنائس التي تحمل أسم سيدة الكرمل بتساعية
احتفالية. كذلك الرهبانية الكرملية العلمانية، التي يتشح أبناؤها بثوب الكرمل ، تحتفل بتجديد النذور والتزام الأعضاء الجدد من خلال لبس الثوب أو النذور البسيطة والمؤبّدة .

‎نجمان مشعّان يرصّعان شعار الكرمل وعليهما يرتكز تاريخ الكرمل وروحانيت ، وهذان النجمان هما إيليا ومريم . فمن روح ايليا تستمدُّ الرهبانيّة الكرمليّة ميزتها المرتكزة على الصلاة وعلى روح الرسال ، وفي نذوره الرهبانيّة ، يتّخذ الكرمليّ مريمَ أمّا له وشفيعة ومثالا . وانطلاقاً من ذلك، فقد تميّز رهبان الكرمل بهذه الهويّة المريمية ، مما جعل الكنيسة تعترف لهم بذاك الاسم الذي حملوه على توالي العصور، وهو : ” إخوة العذراء مريم، سيّدة الكرمل” .

‎هذا، ولئن عُرف الكرمليّون، في بادىء حياتهم النسكية ، ” بنسّاك جبل الكرمل “، كما ورد في قانونهم الأول سنة ١٢٠٩، غير أنهم سرعان ما اتخذوا لهم في سنة ١٢٢٠ تسمية تميّزهم عن سائر النسّاك، فعُرفوا “بنسّاك العذراء سيّدة الكرمل”، إلى أن أطلق عليهم الاسم الرسمي والقانوني : ” إخوة مريم سيّدة الكرمل ” ، وكان ذلك بُعيد رحيلهم من الشرق إلى بلاد أوروبا .
‎ففي جميع هذه التسميات، تمسّك الكرمليون بهويّتهم المريميّة، ولم يقبلوا بسواها بديلاً، ولا بغير مريم امّاً لهم ومثالاً. هذا ممّا دفع بالأحبار الأعظمين على منح المؤمنين إنعاماتٍ روحيةً وغفراناتٍ خاصّة لدى تسميتهم رهبان الكرمل “بإخوة العذراء مريم”.

‎فلا غرو إذا قلنا : إن الهوية المريمية كانت ميزة الرهبانيّة الكرمليّة منذ نشأتها، وبها عُرفت ، وقد تسابق البابوات والملوك على حماية ” إخوة مريم العذراء ” والدفاع عنهم، ممّا جعل النفوس التائقة إلى إكرام العذراء والتعبّد لها، تتقاطر على أبواب الأديرة ، تطلب الانتساب إلى هذه الرهبانيّة .

‎ومع أن هذه التسمية وفّرت لإخوة مريم سيّدة الكرمل كلّ دعم وإعجاب ، في صفوف المؤمنين ولدى الملوك والبابوات والمتنفّذين ، غير أنها جرّت عليهم ، من جهة أخرى، الكثير من الأحساد والخصومات والحزازات ، على يد العديد ممّن لَم يَرُق لهم هذا التميّز والاستئثار بهذه الإخوّة للعذراء .

‎إنه لمن التواتر في تاريخ الديانات أن تقيم كلّ ديانة مزاراتها وهياكلها على أنقاض هذه أو تلك من سابقاتها المندحرة أو المنقرضة. وهذا ما حصل بالفعل في تاريخ جبل الكرمل الروحي. لقد كان الكرمل في التاريخ القديم مركزاً هاماً للديانة الفينيقية (عبادة بعل وعشتاروت)، ثم انتقل الجبل إلى عبادة الإله الحقيقي (إله ابراهيم … والياس النبي). اما في العهد الجديد، فما إن ترسّخ الدين المسيحي في بلاد فلسطين حتى غدا الكرمل أول موقعٍ تركّزت عليه عبادة العذراء ، امّ يسوع .

‎هذا، وما انفكَّ الآباء القديسون وشرّاح الكتاب المقدّس ينقلون الرمز الروحي والسرّي لتلك السحابة التي ظهرت لإيليا النبي على قِمّة الكرمل. لقد رأت الكنيسة في تلك السحابة السرّية، التي انهمرت على الأرض مطراً غزيراً بعد طول انحباس ، رمزاً للعذراء مريم ، أمّ المخلص الذي هبط على الأرض يسكب عليها خيور النعمة والسعادة والحياة .

‎كان من الطبيعي إذاً، أن يشيّد نسّاك الكرمل معبدهم الأول على اسم من اتخذوها شفيعة ونموذجاً لحياتهم الرهبانيّة في الصلاة والتأمّل ، تلك التي كانت تُصغي إلى كلام الله وتشارك يسوع في مراحل حياته ، يكبر بين يديهما، ثم ينطلق إلى الرسالة ويعاني الآلام والصلب … ” وهي تحفظ كلّ ذلك وتتأمّل فيه في قلبها ” .

‎فإلى هذا المعْلم التاريخي والروحي ، أي هذا المعبد المكرّس على اسم السيّدة العذراء على قمّة الكرمل ، تعود تسمية اولئك النسّاك ” بإخوة العذراء مريم ” . وعلى ذلك، فإنَّ تعبّد الكرمليّين نحو أمهم العذراء لم تقتصر على تشييد الكنائس والمعابد على اسمها، وعلى اتخاذهم إياها شفيعة ونموذجاً لحياتهم، بل كرّسوا لها أنفسهم ، وذلك في الصيغة القانونية لنذورهم بالذات ، بحيث تكون نذور الراهب الكرملي فاسدة إن لم تشتمل صورة إبرازه النذور على تكريسه لمريم العذراء، وبذلك يصبح الراهب حقاً في عداد ” إخوة العذراء سيّدة الكرمل ” .

‎هذا كلّه يجعلنا ندرك مدى ارتباط الراهب الكرملي بأمّه العذراء مريم، من جهة، ومقدار استحسان العذراء لهذا التكرّس لها، من جهة أخرى. وما انفكّت العذراء مريم تعبّر عن حمايتها لإخوتها الكرمليّين في كلّ وقت لا سيّما زمن الاضطهادات والأخطار ، ومن بين تلك العلامات الصارخة عن حبّها لإخوتها الكرمليّين وحمايتها لهم ” ثوب سيّدة الكرمل ” .

‎إن عبادة ثوب العذراء تتوّج تكرّس الكرملي لأمّه مريم. فكما يعترف الراهب الكرملي بمريم أختاً له وأماً ومثالاً لحياته وذلك في نذوره الرهبانيّة بالذات ، تعترف العذراء مريم بالكرملي أخاً لها، آخذة على عاتقها حمايته والدفاع عنه وسط النكبات والأخطار . والعلامة الحسّية على ذلك هي الثوب الذي أعطته العذراء القديس سمعان ستوك ، رئيس الكرمليّين العام في بلاد انكلترا ، رمزاً لحماية رهبانه من أخطار الحياة وعربوناً لخلاصهم الأبدي . لقد جاء ظهور العذراء وإعطاؤها الكرمليّين ثوبها، بمثابة ردّ منها على تكرّسهم لها بالنذور الرهبانيّة . فالثوب الكرملي هو ” ثوب مريم سيّدة الكرمل “، إنه علامة “أخوّةٍ” ورمزُ محبةِ العذراء لرهبانيتها وعنوانُ تكرّس الكرمليّين لها ولابنها يسوع .

‎فلا عجب أن ينطلق الكرمليون يبثّون محبة العذراء بين المؤمنين وينشرون عبادة ثوبها المقدّ ، ذلك لأن ” ثوب الكرمل ” يمثّل بنوع حسّي وروحيّ أصيل، مجاهرةَ المؤمن بحبّه وبتكرّسه لأمّه العذراء وحماية العذراء لمن يكرّمها؛ فتنشر عليه ثوبها إبّان المحن والأخطار وتسكب عليه غزير نعمها .

‫ظهور العذراء للقدّيس سمعان ستوك‬
‎كيف كان الكرملّ قبل ظهور العذراء للقديس سمعان ستوك ، وكيف غدا بعد هذا الظهور ؟

‎تَسَلَّمَ سمعان ستوك الإنكليزي، رئاسة الكرمليين العامّة سنة ١٢٤٧ وقد عُرف عنه أنّه كان مغرماً بمريم العذراء وبالتعبّد لها .
‎وكانت الرهبانية الكرملية قبل سنة ١٢٥٠ تعيش على شفير الهاوية : فعدد الرهبان قليل ، الغالبية منهم متقدمون في السن … لا دعوات جديدة … إنطلقت من الشرق إلى الغرب ولكن الغرب لم يكن ليقبلهم بسهولة : فبعض الأساقفة والرؤساء الروحيين لم يسمحوا لهم بالإحتفال بالقدّاس والفرض الكنسي، في رعاياهم وكنائسهم، أو حتى أن يدفنوا موتاهم في مقابر الأبرشية . ممنوع عليهم أن يبنوا كنائس خاصّة بهم ضمن أبرشيتهم أو أن يقرعوا الأجراس . كانوا يعدّونهم غرباء طارئين ، وافدين من شرق مجهول، لا أصل لهم ولا هوية واضحة، ولا إعترافاً كنسيّاً صريحاً وواضحاً برهبانيتهم .

‎إذًا، الصعوبات عديدة وجميع النوافذ مغلقة في وجه الرهبانية . من هنا نشأت الفكرة عند القديس سمعان ستوك : لن يستطيع أحد الدفاع عن الرهبانية وإنهاضها إلاَّ أمّها بالذات …

‎ألسنا نحن إخوتها وأبناءها ! إذًا على الإخوة الكرمليين أن يستعينوا بأختهم القديرة . لذلك دأب سمعان ستوك وهو المسؤول الأول ، على التوسّل إلى مريم العذراء ، سيّدة الكرمل ، طالباً منها امتيازاً فريداً ، طالباً منها “علامة حسّية ” تبرهن بها على استمرار حمايتها لإخوتها وأبنائها .

‎وكانت صلاته ترتفع كالبخور كل يوم فيصلّي ويقول :
‎يا زهرة الكرمل ـ يا كرمة مثمرة ـ يا ضياء السماء ـ يا مريم العذراء ـ أنتِ وحدك الأمّ الشفوقة ، العذراء المتواضعة ، التي لم تعرف رجلاً ـ أعطي أولادك ، أولاد الكرمل ، إمتيازاً فريداً ـ يا نجمة البحر … وقد سمّاها سمعان ستوك : ” نجمة البحر ” لأن البحّارين كانوا وسط الأخطار يتطلعون إلى النجمة «نجمة البحر» التي بواسطتها كانوا يعرفوا الإتجاه صوب الميناء .

‎(‫عليك السلام بلا ملل يا نجمة البحر والأمل‬).

‎وفي ١٦ يوليو ١٢٥١ بينما كان يصلّي صلاته المعهودة هذه ، إذا بالعذراء مريم ، مصحوبة بجوقاتٍ من الملائكة تظهر له وهي تحمل في يدها ثوب الرهبانية وتقول :
‫ ” خذ هذا الثوب. إنّها العلامة. إنّه الأمتياز الذي طلبته مني: أعطيه لك ولجميع رهبان الكرمل .‬
كل من يموت حاملاً هذا الثوب، فإنه لن يذوق عذاب النار بل يخلص ” .

‫ماذا كانت النتيجة بعد هذا الظهور ؟‬
‎لقد أَحسَّ سمعان ستوك باطمئنان شديد، وبقوّة عظيمة، إثر هذا الظهور، وإثر هذا الإعلان الجلي الواضح . لقد استجابت مريم صلاته وصلاة إخوته الرهبان . وأخذت على عاتقها مصير رهبانيتها . لقد تشّجع سمعان وتقوّى . رحلت عنه الشكوك والوساوس بخصوص المستقبل ، بعدما بلّغ رهبانه بما حصل : فتشدّدوا جميعاً وتقوّوا …
‎لقد أكدّت على حمايتها وشفاعتها ولمَ لا ؟ أليست كليّة القدرة ؟ وهل تعجز على إعطاء أبنائها هذه العلامة ؟ ” إنّه الثوب ” هدية من مريم إلى أبنائها .

‎وهكذا فإنّ القرن الثالث عشر لم يكد يشرف على نهايته ، حتى نهضت رهبانية الكرمل من الحضيض إلى القمّة : فتثبتت الرهبانية وأخذت مركزها وموقعها بين كبريات المؤسّسات الرهبانية في العالم . وتوالت التأسيسات بعد سـمعان : فبعد سنتين كان التأسيس في أكسفورد وفي لندن ١٢٥٣ ـ في باريس ١٢٥٤ ـ في يورك ١٢٥٥ ـ في نورويش 1256 ـ في بولونيا ١٢٦٠ ـ وزاد عدد الأديرة وتكاثر عدد الرهبان في الشـرق وفي الغـرب، وتأسسـت الأقاليـم إقليمـاً تلو الآخر . إقليم رومة ١٢٦٥ ـ فرنسا ١٢٦٥ ـ ألمانيا ١٢٦٥ـ لومبرديا ١٢٧٠ ـ أكيتان(فرنسا) ١٢٨٢ ـ إسبانيا ١٢٨٢ ـ إيرلندا١٢٩٧ .
‎لقد كانت السنوات التي تلت ظهور العذراء للقدّيس سمعان ستوك حافلة بشتّى الإنعامات والتأسيسات. فنهضت الرهبانية من الخمول والنسيان والإنهيار والموت ، بعدما لبست حلّة الثوب الجديد : ثوب العذراء مريم سيدة الكرمل. وهكذا امتدّ الكرمل من الشرق إلى الغرب واستقرّ بقوّة في كافة بلدان اوروبا الغربية والشرقية …

‎أجل ! فالإيمان يصنع الأعاجيب . والصّلاة الحارّة تحرّك السماء . طلب سمعان العون من العلاء ، فاستجابت مريم لأنها سلطانة الأرض والسماء . لقد عرف سمعان بمن يستنجد وإلى من يصرخ في وقت الشدة والضيق ! ألاَ يصرخ الولد إلى أمّه عند الخطر ! ألاَ ينادي الطفل أمّه عند الخوف والمرض ! لقد تدخلت العذراء عندما هرعت القلوب إليها ، كما تتدخل اليوم أيضاً عند طلب شفاعتها .

‎ومريم لا تزال أمّاً في كل زمان وجيل ! إنّها أمّ البشرية ، وهي تبرهن عن قدرتها وشفاعتها من خلال ظهوراتها المتعددة في لورد ـ في فاتيما ـ في مديوغوريه ، في الشرق والغرب …
‎فإليها ترتفع أيضاً صلاتنا في كلّ حين .

تاريخ الخبر: 2024-07-28 09:21:25
المصدر: وطنى - مصر
التصنيف: غير مصنف
مستوى الصحة: 56%
الأهمية: 65%

آخر الأخبار حول العالم

أسعار اشتراكات مترو الأنفاق للطلبة.. إنفوجراف

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-09-20 06:22:33
مستوى الصحة: 33% الأهمية: 48%

اليوم.. آخر موعد لمعرض أهلا مدارس الرئيسى فى مدينة نصر

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-09-20 06:22:32
مستوى الصحة: 30% الأهمية: 36%

وزارة الأوقاف تفتتح اليوم 26 بيتًا من بيوت الله منها 24 مسجدًا جديدًا

المصدر: اليوم السابع - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-09-20 06:22:30
مستوى الصحة: 40% الأهمية: 49%

وزير الصحة يعزي الخبراني في والدته - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-09-20 06:24:30
مستوى الصحة: 51% الأهمية: 53%

الجامعة العربية: قرار الجمعية العامة بإنهاء وجود إسرائيل خل

المصدر: مصراوى - مصر التصنيف: غير مصنف
تاريخ الخبر: 2024-09-20 06:22:39
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 57%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

pendik escort
betticket istanbulbahis zbahis
1xbetm.info betticketbet.com trwintr.com trbettr.info betkom
Turbanli Porno lezbiyen porno
deneme bonusu
levant casino levant casino levant casino levant casino levant casino levant casino
bodrum escort
deneme bonusu veren siteler
Bedava bonus casino siteleri ladesbet
deneme bonusu veren siteler
deneme bonusu
deneme bonusu
sex ki sexy
deneme bonusu
kargabet
تحميل تطبيق المنصة العربية