النسب والهوية والانتماء


إذا عدنا بالزمن إلى الوراء وسألنا أحد الأشخاص في مجتمع تقليدي عن هويته فربما لا يفهم معنى السؤال، ولو سألناه عن انتماءاته فربما يحتاج الأمر إلى مزيد من الشرح، ولكن لو كان السؤال عن نسبه فربما ينطلق فى الحديث عن قبيلته وعشيرته وأجداده بكل سهولة ويسر. فعلي ما يبدو أن الألفاظ التى تحمل دلالات الأصالة والثوابت الثقافية والقيمية هي ألفاظ مستحدثة، فما كان يعرفه الشخص فى المجتمعات التقليدية القديمة ليس سوى الأنساب والانتساب إلى جماعة أو طائفة، وهذا الانتساب قد يكون مادة للتفاخر ولكن ليس للتفكير لأنه من المسلمات، وأساس وجوده كجزء من الجماعة. بالتالي وفى كتابه “تاريخ ابن خلدون”، يقول الأمير شكيب أرسلان: “إن علم الأنساب هو العلم الذي يبحث في تناسل القبائل والبطون من الشعوب وتسلسل الأبناء من الآباء والجدود، وتفرع الغصون من الشجرة البشرية بحيث يعرف الخلف عن أى سلف انحدر، والفرع عن أى أصل صدر، وفى هذا العلم من الفوائد النظرية والعملية، بل من الضرورات الشرعية والاجتماعية والأدبية والمادية، ما لا يحصى..”. وإذا أردنا استعارة لغة الحاضر عن الهوية والانتماء، فإن النسب كان هو الإطار الحاضن للوجود الفردي والجماعي، إطارا يتسم بروابط رأسية وتتابعية وعضوية فيها الخلف والسلف، والفرع والأصل، والغصن والشجرة.

ولا شك أن هذا النسق التقليدي عرف انتماءات أخرى دينية ومذهبية أو اجتماعية (أسياد وعبيد) أو مهنية (طوائف الحرف) ولكنها كانت ساكنة وضمنية وملحقة، وغالبا ما كانت فى حالة خمول فى كنف روابط النسب التقليدية. أما الانشغال بالهويات والانتماءات الأخرى فقد برز مع تفكك روابط النسب التقليدية، سواء فى أوقات الغزو والاستعمار أو مع سيطرة الأنظمة الحديثة التى فككت الروابط التقليدية، وجعلت من الفرد “ذاتا فردية”. ولأن التحديث لم يكن مسارا متجانسا فى كل المجتمعات، فقد شهدت مجتمعات صعودا طاغيا للفردانية فى حين ظلت أخرى محتفظة بالأنظمة والعلاقات التقليدية بدرجة أو بأخرى. وكانت “المواطنة” هى النسق الجديد الذى يتم من خلاله تعريف الأفراد فى ظل الدولة الحديثة. وصاحب هذه التحولات بروزمصطلحات الهوية والانتماء كتعبيرات جديدة عن روابط تمنح الفرد وجودا فى إطارجماعي ومؤسسى مختلف. وهكذا تعددت الهويات واتسع نطاقها، وتعددت الانتماءات وتغيرت قواعدها، ومع التعدد والتنوع أصبحنا نتحدث عن عمليات وسياسات يتم من خلالها تشكيل الهويات وصناعة الانتماءات. إن الفرد فى المجتمع الحديث حظى بصفة (المواطن) ولكن التنظيم الاجتماعي بات أكثر تعقيدا وانفتاحا فظهرت الحاجة للتأطير والتذكير بأن هناك هويات عليه أن يمتثل لها، وأن هناك كيانات عليه أن ينتمي إليها.

وربما يكون السؤال الأساسي الذى يطرح نفسه هو: لماذا حدث هذا الاهتمام الكبير بقضايا الهوية والانتماء فى العصر الحديث؟ وما هو سبب الإلحاح الدائم على أن الهويات مهددة وتستوجب الحماية؟ فى الحقيقة يصعب الحديث إجابة واحدة تفسر هذا الانشغال الكبير بقضايا الهوية الذي يصل أحيانا إلى حد الهوس الثقافي والسياسي. ويمكن القول، أن الهويات والانتماءات التى كانت ساكنة وخاملة فى ثنايا نظام الأنساب، كان من الممكن أن تبقي كذلك فى ظل نظام المواطنة، ولكن هذا لم يحدث لعدة أسباب. أولا: لأن ظهور الفرد كذات مستقلة منحة حرية الاختيار سواء فى صياغة هويته الذاتية فى إطار جماعة أو بدونها (من أنا؟) أو تحديد علاقاته فى عالم بات أكثر رحابة (إلى من أو إلى ماذا أنتمي؟)، ويمكن القول أن هذه الحرية الفردية، التى لم يكن لها وجودا فى السابق، لعبت دورا مزدوجا فى تشكيل وتهديد الكيانات الجماعية (الدينية والطائفية والقبلية والعرقية أو الأيديولوجية أو الحزبية)، فجاء التشديد على الهوية والانتماء كإجراء يستهدف الحفاظ على كيانات باتت تستشعر خطر انفلات الذوات الفردية؛ ثانيا: بالمقابل، ليست هذه الكيانات، التقليدي منها والحديث، بلا وظيفة، فبعضها، والحديث منها على وجه الخصوص ينشط فى إطار المواطنة (كالانتماءات الحزبية والنقابية وغيرها)، وبعضها الآخر، التقليدي منها على وجه الخصوص، ينشط ويتضخم عندما تكون المواطنة ضعيفة وهشة وغير مكتملة، فتظهر كبدائل لها قوتها ومشروعيتها، بالمعنيين الاجتماعي والسياسي، وأكثر من ذلك فهى كثيرا ما تكون الملجأ والملاذ لذوات غير متحققة بسبب هشاشة المواطنة؛ ثالثا: أن الدولة القومية الحديثة، وجدت فى سياسات الهوية وخطابات الانتماء وسائل فعالة فى نظام السلطة وخاصة فى ظل العولمة وزيادة قنوات التواصل والاتصال والهجرة وتحركات البشر. وفي هذا السياق، أصبح خطاب الهوية والانتماء وسيلة للسيطرة والدمج والاقصاء، ومعه ظهرت مفاهيم مثل الحضارات والتنوع والتعدد والفوبيا والكراهية، وكلها مفاهيم حديثة ليس لها وجود فى لغة العالم القديم.

وبدون الاستخفاف من مفاهيم “الهوية” و”الانتماء”، إلا أنه من الضروري الإشارة إلى أنها لا تمتلك أى قيمة تحليلية، لأنها مفاهيم “وظيفية” يجرى استخدامها بطرق مختلفة ولأغراض متباينة، فالفرد منشغل دائما بسؤال الهوية (من أنا؟) وأكثر من ذلك “ماذا سأكون؟” فالهوية صيرورة تشكل متواصلة، وقد تقدم له خطابات الهوية إجابات متعددة ولأغراض متباينة، ومع كل إجابة يكون مطلوب منه إثبات الانتماء لهذه الكيان أو ذاك. وقد يمتثل الفرد، طوعا أو كرها،لهذه الهويات والانتماءات وقد يراوغ كما قد يرفض، فليس هناك ما هو ثابت، ومع غياب الثبات الفعلي للهويات والانتماءات تصبح خطابات الهوية أشد صرامة وربما أكثر عدائية ضد من يرفض الانصياع لها.

وتخبرنا الأدبيات الحديثة، أن خطابات الهوية، التي يتفاخر بها أصحابها، قد تفقد قيمتها في ظل التحولات الكبرى التي تطال الأفراد والكيانات المعاصرة. فإذا كان نظام الأنساب عضويا ورأسيا وساكنا، فقد جاء العصر الحديث بهويات أفقية ومتعددة وقلقة، فطفت على السطح حاملة ألوية الانتماء والولاءلإضفاء صورة متماسكة على واقع متغير، وها نحن نواجه تحديات جديدة فى عالم روابطه هشة وعلاقاته مؤقته وايقاعه سريع. وأختم باقتباس من كتاب دافيد لو بروتون “اختفاء الذات عن نفسها”، حيث يقول: “.. إن الفرد في المجتمع المعاصر متصل اكثر منه مرتبطا، إن اتصاله فى تزايد مستمر، إلا أن التقاءه بالآخرين في تناقص مطرد، وهذا بالضبط لأنه يفضل العلاقات الأفقية التي نخوض فيها أو نتخلى عنها حسب أهوائنا”.

تاريخ الخبر: 2024-07-15 09:21:39
المصدر: وطنى - مصر
التصنيف: غير مصنف
مستوى الصحة: 57%
الأهمية: 56%

آخر الأخبار حول العالم

«الحليمي» يهدد النساء - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-09-20 03:25:08
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 55%

«طيور الظلام».. محرضون ودعاة فتنة - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-09-20 03:25:14
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 50%

لماذا التزم حسن نصر الله الغموض حول طبيعة رد الحزب على اسرائيل؟

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-09-20 06:07:58
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 80%

كمين محكم يطيح بتاجر مخدرات بسيدي سليمان

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-09-20 06:07:52
مستوى الصحة: 64% الأهمية: 79%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

pendik escort
betticket istanbulbahis zbahis
1xbetm.info betticketbet.com trwintr.com trbettr.info betkom
Turbanli Porno lezbiyen porno
deneme bonusu
levant casino levant casino levant casino levant casino levant casino levant casino
bodrum escort
deneme bonusu veren siteler
Bedava bonus casino siteleri ladesbet
deneme bonusu veren siteler
deneme bonusu
deneme bonusu
sex ki sexy
deneme bonusu
kargabet
تحميل تطبيق المنصة العربية