الدار / تحليل
نقل تدبير توزيع الماء والكهرباء والتطهير السائل من شركة ليديك إلى الشركة الجهوية متعددة الخدمات لجهة الدار البيضاء سطات ليس حدثا عابرا وبسيطا يمكن التعاطي معه باعتباره خبرا اقتصاديا أو اجتماعيا عاديا. إنه تطور حقيقي وتاريخي يستحق قدرا كبيرا من الاهتمام والعناية، والقراءة الفاحصة لما له من دلالات سيادية واقتصادية مهمة للغاية. عودة هذا القطاع إلى المجال السيادي والاستراتيجي في إدارة مدينة كبرى مثل الدار البيضاء يمثل تتويجا لمسار تطوير امتد لحوالي 27 عاما منذ أن تولت شركة ليديك سنة 1997 التدبير المفوض لهذا القطاع. لقد كان إطلاق عقود التدبير المفوض في نهاية التسعينيات بعدد من مدن المملكة قرارا أثار الكثير من الجدل، لكن عودة المقاولة الوطنية اليوم إلى هذا القطاع يؤكد أن هذه الاستراتيجية آتت أكلها.
عندما تم تفويت قطاع تدبير الماء والكهرباء إلى شركة ليديك التابعة لشركة “ليونيز ديزو” آنذاك و”فيوليا” حاليا كان البعض يعتقد أن هذه الصفقة إعلان رسمي عن عجز السلطات المحلية والعمومية ببلادنا عن تدبير هذا القطاع الحيوي، ومن ثم تحويله إلى مورد جديد لاستغلال المقاولات الأجنبية عموما والفرنسية خصوصا. لكن رد السلطات حينها كان ينطوي على قدر كبير من التروي، لقد أعلنت وزارة الداخلية أن المؤسسات الجهوية التي كانت مكلفة بهذا التدبير لم تعد تمتلك الخبرة والقدرة الكافية على توفير خدمة ذات جودة عالية والاستجابة لانتظارات مدينة كبيرة مثل الدار البيضاء في أوج تطورها العمراني والصناعي. واليوم بعد أن شارف عقد التدبير المفوض على الانتهاء تتخذ وزارة الداخلية قرارها الشجاع باستعادة الشركة.
التوقيت له دلالات مهمة. نحن نستعد في بلادنا لاحتضان منافسات كأس العالم في عام 2030 ومن غير المناسب لصورة المغرب أن نستقبل في أكبر مدن المملكة هذا الحدث ونحن عاجزون عن تدبير قطاع حيوي بمقاولاتنا ومؤسساتنا الوطنية. لم يعد هذا الأمر مقبولا بتاتا، لأن شركة ليديك التي دبّرت هذا القطاع على مدى 27 عاما كانت تعتمد أساسا على خبرات الأطر المغربية وتجارب الكفاءات الوطنية، التي أضحت اليوم تمتلك رصيدا كافيا من المعرفة والتأهيل الذي يخوّل لها القيام بهذه المهمة على أكمل وجه. والرسالة البالغة الأهمية التي تحرص السلطات العمومية على بعثها اليوم من خلال السير قُدما في هذا القرار هي أن الوقت قد حان كي تحتل المقاولات الوطنية مكانتها المستحقة في إدارة العديد من الخدمات كالماء والكهرباء والنظافة، وتشييد الطرق والمنشآت الحيوية وغيرها.
الأوراش الكبرى التي ستفتحها بلادنا استعدادا لتنظيم كأس العالم تمثل فرصة سانحة لهذه المقاولات الوطنية كي تستفيد من كعكة النمو الهائلة، وتثبت في الوقت نفسه جدارتها وقدرتها على منافسة المقاولات الأجنبية. هذه فرصة مهمة للغاية يجب أن ينكب عليها الرأسمال الوطني والخبرات المحلية من أجل تقديم أفضل صورة عن مغرب يتطور وينمو وقادر على إدارة شؤونه واحتياجاته الأساسية والاستراتيجية بأدمغة أبنائه وسواعدهم. هناك مدن أخرى مثل الرباط وطنجة فوتت هذا القطاع لشركات أجنبية بموجب عقود التدبير المفوض، وعليها أن تستعد هي أيضا في أقرب الآجال من أجل تسليم حصصها إلى المقاولات والمؤسسات الوطنية التي ستعود بقوة إلى واجهة الإدارة والتدبير، ولا سيّما إذا أظهرت الشركة الجهوية متعددة الخدمات لجهة الدار البيضاء سطات حنكة في أداء مهامها.
إنهاء عقد التدبير المفوض مع شركة ليديك في جهة الدار البيضاء سطات يمثل إذاً إشارة سياسية واضحة إلى أن المغرب مقبل في المرحلة القادمة على إعطاء الأولوية لمقاولاته الوطنية. وهو قرار يؤكد أيضا الاختيارات السيادية للمملكة. فالحديث عن الامتياز الذي تحظى به بعض المقاولات الفرنسية لم يعد كلاما مقبولا بالمرة. الشركات الفرنسية مثل غيرها من الشركات الأجنبية يجب أن تتنافس من أجل الحصول على فرصتها وتقدم أفضل ما لديها، وإذا كانت هناك مؤسسات مغربية أو شركات محلية قادرة فستكون لها الأولوية طبعا في هذا السباق. لذا، فإن هذا القرار لا يمكن أبدا أن يشكل مصدر قلق أو إزعاج لأي جهة كانت، ما دام الأمر يجري في نطاق احترام القانون والتعاقدات الدولية، وفي سياق السيادة الوطنية الخالصة.
