فرنسا، بلد ثورة 1789، وكمونة باريس 1870 وانتفاضة الطلاب 1968. إنها فرنسا التي عانت ويلات الحرب العالمية الأولى وحاربت النازية وتكبدت معاناة ويلات الاحتلال الألماني النازي المذل خلال الحرب العالمية الثانية.
فرنسا، بلد فولتير وأناطول فرانس وفيكتور هيغو وإميل زولا وسارتر وآلتوسير، اختزلت هذا التاريخ في محور النقاش السياسي العام حول خرقة ترتديها بعض النساء تماشيا مع عقيدتهن الدينية.
لليمين المتطرف في فرنسا جذور معقدة ومتنوعة في تاريخ البلد. فقد ظهرت حركات معادية للحريات والانعتاق منذ نهاية القرن الثامن عشر، ضد توجهات الثورة الفرنسية. حيث اجتمعت قوى الثورة المضادة والكنيسة والمتشبثين بالنظام السابق للهجوم على عاصمة الثورة آنذاك، مدينة باريس. وكانت هذه القوى تخالف حتى الملك لويس السادس عشر، عندما تبنى ووقع على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
ما بين 1894 و1906، عرفت فرنسا ما سمي بقضية دريفوس، الضابط اليهودي الذي وجهت له تهمة الخيانة العظمى، وحوكم بالسجن مدى الحياة، ليقضي منها ثمانية سنوات قبل أن تثبت براءته.
وعرفت هذه الفترة مدا يمينيا متطرفا، خاصة بعد تأسيس "الحركة الفرنسية" المتطرفة التي كان يزعمها شارل مورا، والتي تبنت معاداة السامية والقومية الشوفينية الداعية إلى الأسبقية للفرنسيين المسيحيين.
إلا أن أخطر فترة ستعيشها فرنسا، هي وصول اليمين المتطرف، بقيادة المارشال بيتان، إلى سدة الحكم بعد التواطؤ والتعاون مع المحتل النازي الهتلري. ورغم مخلفات الحرب العالمية الثانية، والويلات التي عاشها الفرنسيون تحت حكومة فيشي اليمينية المتطرفة، ظهرت حركة البوجاديسم (le Pujadisme) سنة 1953، التي بقيت حركة سياسية ونقابية، منحسرة في جهة معينة واندثرت سنة 1958.
خلال سنوات السبعينيات، ظهر ما سمي باليمين المتطرف العصري، الذي انتقد ولو بشكل محتشم هيمنة اليهود على مواقع القرار والاقتصاد والإعلام، وبشكل أكثر جرأة، وجه الأصابع إلى المهاجرين خاصة منهم المغاربيين والأفارقة، واتهمهم بأنهم أصل كل مشاكل فرنسا.
إلا أن التطرف اليميني الفرنسي، المتمثل في الجبهة الوطنية التي كان يتزعمها جون ماري لوبين (ضابط سابق في الجيش الفرنسي)، شارك في الإبادة الهمجية التي تعرض لها الشعب الجزائري الذي كان يطالب بالاستقلال الوطني، مما عرضه إلى فقدان عينه اليسرى. وواجه هذا التطرف قانون غيسو (la loi Gayssot)، الذي تعرض كل من شكك في المحرقة النازية ضد اليهود إلى المتابعة القضائية، مما جعل الجبهة الوطنية تتراجع شيئا فشيئا عن مواقفها الصريحة المعادية للسامية، وتركز على عدائها المعلن للمهاجرين المغاربيين والأفارقة (كبش فداء) وتتبنى ما يشبه التقية، للمضي في إقناع جماهير جاهلة ويائسة تعاني من الأزمات الاقتصادية وانعدام الأمن في بعض الحالات، وتفشي التطرف الديني عند بعض المسلمين.
ويستفيد التطرف اليميني من العملية الديمقراطية ونزاهة الانتخابات، التي تضمنها المؤسسات الوطنية، ليشق طريقه نحو الظفر بالحكم، (وهذا يعيد إلى الأذهان أن الحزب الوطني الاشتراكي، بقيادة هتلر، قد وصل إلى الحكم سنة 1933، خلال انتخابات ديمقراطية) لكن ما أن تحكم في السلطة حتى فرض بيد من حديد سلطة الحزب الواحد والقائد الأوحد، وما تلى ذلك كان أكبر كارثة عرفتها البشرية.
الخطر الذي يشكله اليمين المتطرف في فرنسا، إذا استفرد بالحكم، هو أنه سيسبب لا محالة في تطاحنات داخلية تفتح الباب نحو المجهول. فمعاداة الإسلام في بلد يعيش فيه أكثر من خمسة ملايين مسلم، ومعاداة الديمقراطية والحريات العامة والفردية سيهيج أطيافا كثيرة داخل المجتمع الفرنسي، ويهدد الاستقرار والتعايش.
فرنسا تمر بظروف عسيرة، نتيجة الأزمات الاقتصادية المتتالية، وتعرف مؤسساتها تراجعا ملموسا في القدرة الشرائية، وتفشي البطالة وترهل الخدمات. وهي بذلك مطالبة بإصلاحات عميقة، والتصدي لخطاب الكراهية غير المبرر.
وهذه الإصلاحات، لا يمكن أن تحققها إلا قوى ديمقراطية، واعية بمصالح الأطياف المكونة للمجتمع الفرنسي، ومؤمنة بضرورة التعايش والاستقرار ودولة الحق والقانون.
