الفقر.. حرب بلا حلفاء
الفقر.. حرب بلا حلفاء
سألني صديق سوري: أوتدرين ماذا فعلت بنا الحرب؟ ولا أعرف لماذا ظل لساني معقودا أمام سؤال معلوم الإجابة, إنها الحرب التي خلفت القسوة والتشرد والوجع والثأر, قال الصديق السوري حزينا:زاد الفقر, واستمر النزوح القسري,وضاعت فرص التعليم, فتم دفع الأطفال دفعا نحو العمل المبكر لإعالة عائلاتهم, وكبروا قبل الأوان.
صامتة ظللت هكذا أفكر فيما يقوله, وأنهيت لقائي معه ونفسي تحدثني:أولئك الذين شردتهم الحرب يبكون بنيهم لأنهم يحتملون إعالة عائلتهم رغم صغر أعمارهم, لكن هناك آخرين يحيون بلا حروب,ولا نزحوا ولا تصارعوا إلا علي لقمة العيش, لكن من الستر إلي الفقر, ثم الفقر المدقع, حتي صار غلاء المعيشة , طوقا يلتف حول أعناقهم,وكأنه مشنقة الحرب الطاحنة.. الحرب مع الفقر وضيق ذات اليد, الذي يدفعهم للزج بأطفالهم إلي سوق العمل, تلك السوق بكل ما تمتلكه من مقومات إفساد البراءة والطفولة, وضياع مباهجها,أو يدفعهم للتخلي عن بنيهم, وتركهم فريسة للأمراض والاستغلال, أو يدفعهم لاستغلالهم بالتسول وطرق أبواب القادرين ونزع قيمة الكرامة من ذواتهم مبكرا.
حملت سؤال الصديق وسرت في شوارع منطقة شعبية, هنا طفل ينظف أمام أحد المحال,وفي الزاوية آخر يقف في خوف حاملامنفاخ إطارات السيارات لدي إحدي الورش,وعلي قمة الشارع تجلس فلاحة بمنتجات الألبان وإلي جوارها طفلتها ذات العشر سنين, تتولي التعبئة ووالدتها تتولي الميزان, كل ذلك بسبب الحرب مع الفقر وليس الحرب مع عدو, الفقر أشرس عدو يمكن الدخول معه في صراع بدون حلفاء.
شاردة حملت حالي وسرت متجهة إلي عملي, تراودني ذكريات حادث شهر يناير من العام الماضي, في قرية الغنامية بالمنوفية, حينما تعثرت سيارة تقل 23 طفلا,لم يكن هذا في طريق عودتهم من المدرسة, كانوا عائدين من مقر عملهم بعد أن أنهوا يوم عمل تخطي 12 ساعة, عشر فتيات و13 صبيا, حيث جميعهم كانوا يعملون في مزرعة دواجن لجمع البيض, سقطت بهم السيارة في نهر النيل في أثناء صعودها معدية تقلهم من جانب إلي آخر فوق نهر النيل, لم يتحكم قائد السيارة في المكابح, وسقطت في المياه, انتهت هذه الحادثة بانتشال 8 جثث لأطفال.
وصلت عملي وأنا أردد السوال الحائر ماذا فعلت بنا الحرب مع الفقر؟ وفي مكان الانتظار وجدت ولدا لم يبلغ السادسة عشرة من العمر ينتظرني ,وحينما بدأ يروي سبب زيارته,اكتشفت حينها أن الحرب والسلام كليهما يبدأ في الداخل من الأسرة, الولد أصيب فجأة بضمور في المخ, تسبب في انهيار الوظائف الأساسية لجسده, يمشي مهتزا, يتلعثم في الحديث, بكلمات غير مفهومة,وحروف ساقطة.
يعمل في محلموبيلات جاء طالبا المساعدة في العلاج, سألته لماذا لا تتلقي العلاج المناسب,أين والداك,فأجاب والدتي توفيت منذ سنوات, بعد أن استهلكها نفس المرض, وخالي كذلك, أما والدي فقرر ألا ينفق علي علاجي جنيها واحدا, لأن حسب تعبيرهمافيش أمل من شفايا..أحني الولد رأسه وانهار باكيا,وقال الكل اتخلوا عني,وأنا نفسي أخف,لكن مافيش عندي حد ألجأ له ولا حد يساعدني.
عجيبة هي الحياة, ورحي الحرب مع الفقر كم هي قاسية, تطحنهم كحبات بين شقيها بلا رحمة,بالرغم من أنهم أطفال بلا إرادة وكل عمل يمارسونه يدخل في إطار العمل الجبري, وكل تعامل مع الشارع يكسبهم سلوكيات دخيلة علي طفولتهم, تتسبب في عدد من الاضطرابات النفسية التي ترافقهم طول العمر منها الاضطراب الجنسي واضطرابات الاكتئاب والقلق, والمسئول الأول والأخير عن ذلك هو الدولة التي تركتهم وذويهم وقودا للحرب مع الفقر فانتزعت منهم براءاتهم.