الدار/تحليل
قصة العلاقات المغربية السنغالية تستحق أن تُكتب بماء الذهب. إنّها تمثل والارتباط التاريخي الذي يمكن أن يتحوّل بمرور الزمن إلى نموذج يُحتذى به في القارة السمراء، ولا سيّما في مجال إدارة مشاريع التعاون جنوب-جنوب وفق استراتيجية رابح-رابح التي جسّدها المغرب بحرص دائم في تدبير علاقاته على الصعيد الإفريقي. وأهمّ ما يمكن أن يقدّمه تاريخ هذه العلاقات درس مهم للغاية يؤكد أن ما بُني على أسس ثقافية وتاريخية دام واتصل وما بُني على أسس مصلحية ظرفية انقطع وانفصل. علاقات المغرب والسنغال تتجاوز قرونا طويلة من الزمن منذ أن كانت الإمبراطورية الشريفة تصل نهر السنغال بالسودان الغربي وتمتدّ إلى حدود ليبيا شرقا وإقليم الأندلس شمالا.
جمهورية السنغال التي تعتزّ اليوم بديمقراطيتها الناشئة والمملكة المغربية التي تعتز بنموذجها الحداثي الديمقراطي المرجعي لا تتوافقان فقط على المشاريع الاقتصادية الواعدة والاستثمارات المشتركة التي تشكل الدافع الرئيس للقطاع الخاص بل تؤسّسان هذا الارتباط على منشئ تاريخي وروحي عريق. في فاس يرقد أبو العباس أحمد التيجاني شيخ الطريقة التيجانية في مدفنه الشريف ويحجّ إلى زيارته سنويا آلاف السنغاليين الذين يعتنقون الطريقة الصوفية العريقة، وتتقاسمها معهم قبائل كثيرة في جنوب المغرب وشرقه، ويحتفيان معا بهذا الموروث الديني الرمزي الحافل بالدلالات. ومن أهمّ هذه الدلالات ارتباط العلاقات المغربية السنغالية بأسس روحية لا يمكن أن تزعزعها أيّ طوارئ أو مستجدات أو تحوّلات.
لذلك ظلّت العلاقات المغربية السنغالية دائما بعيدة عن تيارات التوظيف والاستغلال الأيديولوجي الذي كان يمارسه بعض الحاقدين هنا وهناك لشراء ذمم بعض الحكومات أو الأنظمة الفاسدة، وتوجيه مواقفها ضد المغرب. ظلّت السنغال منذ عبدو ضيوف حتّى الرئيس المنتخب حديثا باسيرو ديوماي فاي مخلصة لوفائها التاريخي للمغرب والمغاربة، واستمرّت العلاقات الإنسانية التي تعبّر عنها حركة الحجاج والمسافرين في الاتجاهين تؤكد أهمية هذا الجسر الروحي الذي لا ينقطع. واستمرت السنغال في التعبير عن موقفها الصريح الداعم للوحدة الترابية دون أيّ مواربة أو ابتزاز، بينما ظلّ المغرب بدوره حريصا على وحدة السنغال ولا سيّما في أوج الصراع الذي كان يشهده إقليم الكازامنس في جنوب البلاد.
لذلك يقود هذا الجسر الروحي والتاريخي العريق بين البلدين إلى شراكة استراتيجية اليوم تعد نموذجا استثنائيا للتعاون الإفريقي يستند على قيم التضامن والتبادل والثقة والتقاسم وفقاً للبيان المشترك الذي صدر اليوم عقب مباحثات بين ناصر بوريطة، وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، وياسين فال، وزيرة الاندماج الإفريقي والشؤون الخارجية بالسنغال. التعاون بين البلدين لا يمكن إلّا أن يثير الانتباه ويقدم مثالاً عملياً على إمكانية إنجاح مبدأ “إفريقيا للأفارقة” وتنميتها بسواعدهم وقدراتهم الذاتية بعيدا عن أيّ أبوية استعمارية مقيتة. والأهم في هذه التجربة المميّزة أنّها لا تقترن بالشراكة الثنائية فحسب، بل تسعى إلى تقديم هذا النموذج على طبق الخبرة والنجاح لكل الدول الإفريقية الأخرى.
الخبرة المغربية السنغالية إذاً أكبر دليل على أنّ التوافق الثقافي والتاريخي والروحي يجب أن يشكل نقطة قوة وميزة ينبغي اغتنامها لتحقيق التكامل وتعزيز التعاون لأنّ هذا التوافق يكسر كل الحواجز والحدود، ويذلل الصعوبات ويختصر المسافات. السنغال جزء أساسي من العمق الإفريقي للمغرب، وعلى الرغم من أننا لا نمتلك حدودا مشتركة إلا أنّ علاقاتنا الثنائية أثبتت أن العمل من أجل المصلحة الواحدة هو ما يدوم ويؤسّس لمستقبل أفضل بعيدا عن المزايدات والمؤامرات. لقد وجد المغرب في السنغال ما افتقده للأسف في أقرب جيرانه، من دعم ومساندة واحتضان تدلّ عليه موجات الهجرة المتبادلة التي بدأت من فاس في اتجاه دكار قبل عقود طويلة من الزمن وتعود اليوم إلى فاس من كل أنحاء السنغال.
