الدار/ افتتاحية
من بين الخيارات المطروحة على طاولة المفاوضات لإنهاء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة مغادرة قادة حماس أراضي القطاع إلى الخارج على غرار ما فعله ياسر عرفات وقادة منظمة التحرير الفلسطينية وفصائل المقاومة في غشت 1982 حين اضطروا إلى الرحيل من بيروت إلى تونس بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان. كان هذا الحلّ حينها وسيلة لا مناص منها لحقن الدماء وإنهاء المجازر التي ارتكبها قائد الأركان الإسرائيلي أرييل شارون، وانتهت بمذبحة مذبحة صبرا وشاتيلا التي اقترفتها القوات اللبنانية في شتنبر 1982. تريد إسرائيل اليوم أن تستغلّ فرصة العدوان على قطاع غزة لتحقيق هذا المكسب الاستراتيجي من خلال نفي قيادات حماس، ولا سيّما قادة كتائب القسّام الميدانيين إلى الخارج ومن ثمّ فرض سيطرتها على القطاع.
ومن الواضح أن هذا المطلب الذي تشجّعه أيضا العديد من القوى الغربية مثل الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا هو الذي أدى إلى تعثّر مفاوضات التوصل إلى اتفاق لوقف نهائي لإطلاق النار أو هدنة طويلة على الأقل. بالنسبة إلى حماس يعتبر هذا المطلب خطاً أحمر من المستحيل أن تستجيب له لأنه سيمثّل إعلان استسلام صريح وهزيمة نكراء في هذه الحرب التي بدأت بهجوم كاسح ومفاجئ نفذه عناصر كتائب القسّام في السابع من شهر أكتوبر الماضي. خروج قيادات حماس وعلى رأسهم يحيى السنوار ومحمد الضيف مثلا يعني ببساطة أن إسرائيل انتصرت وحقّقت أهدافها.
من الواضح أن إصرار إسرائيل على مواصلة ارتكاب الجرائم والمجازر بالرغم من حجم الكارثة الإنسانية التي لحقت المدنيين في قطاع غزة وبالرغم من الإدانات الدولية والهزيمة الأخلاقية التي حصدتها يهدف بالأساس إلى الضغط على هذه القيادات وإجبارها على الانسحاب مقابل حقن الدماء وحماية المدنيين المعرّضين حاليا لعملية إبادة جماعية بالقتل والحصار والتجويع والحرمان من الخدمات الصحية والإنسانية. والظاهر أن استمرار المقاومة الفلسطينية في إدارة المعارك ميدانيا وتوجيه الضربات إلى ألوية الجيش الإسرائيلي وخوض معركة الإعلام والتواصل يؤكد أن قادة حماس غير مستعدين بتاتا للانصياع إلى هذه الإرادة مهما كان الثمن. إنهم يدركون بعد كل هذه الخسار البشرية الفادحة والدمار الهائل الذي لحق القطاع أن العزاء الوحيد للفلسطينيين مقابل هذه التضحيات الجسيمة هو تحقيق انتصار بيّن ومشهود على إسرائيل.
نحن الآن في قلب مرحلة عضّ الأصابع، والذي يتألم أولا سينهزم. صحيح أن الخسائر في صفوف المدنيين الفلسطينيين لا يتصورها العقل، لكن هناك خسائر أخرى فادحة في الطرف الإسرائيلي. وقد لحق الجزء الأكبر منها بالجنود الإسرائيليين الذين يواجهون مقاومة شرسة في ميادين القتال بقطاع غزة ويستعدون للدخول في معركة حاسمة في مدينة رفح. هذا يعني أن النظرة الإنسانية التي نتابع بها أحيانا هذه الحرب قد لا تنقل إلينا الصورة الكاملة عن هذه المعركة غير المسبوقة والحاسمة على ما يبدو. لذا فإن هذا الإمعان الكبير في عمليات القتل والتهجير لا تبرّره سوى هذه الرغبة الإسرائيلية في إنهاء وجود حركة حماس في قطاع غزة. لكن إذا افترضنا أن قادة الحركة وافقوا على خطة الرحيل مقابل إنهاء العدوان فإلى أين سيذهبون؟
تمثّل قطر قاعدة سياسية خلفية لحركة حماس والفصائل الفلسطينية المقاومة. لكن المشكلة ليست في اختيار المنفى المناسب، بل في مستقبل الصراع مع إسرائيل. إذا أخرجت إسرائيل قادة حماس من قطاع غزة، فهل ستكتفي بذلك؟ طبعا لا. إنها أعلنت منذ 7 أكتوبر أن كلّ قادة حماس أينما وجدوا في العالم يعتبرون أهدافا مشروعة لها. والدليل على ذلك استهداف الشيخ صالح العاروري القيادي بكتائب القسام ببيروت في بداية شهر يناير الماضي. المواجهة بين إسرائيل وقادة حماس لن تنتهي وستظل مفتوحة على كلّ الاحتمالات في المستقبل سواء وافق القادة على مغادرة قطاع غزة لحقن الدماء أم أصرّوا على البقاء فيها. ثم إن هناك حقيقة أخرى لا يمكن أبدا تجاوزها في سياق مناقشة هذا الخيار. هل تكفي تصفية قادة حماس أو نفيهم لإنهاء وجود الحركة في القطاع والضفة الغربية؟ يجب ألّا ننسى أن حماس هي حركة متجذرة في الشارع الفلسطيني ولا سيّما في أوساط النشطاء الإسلاميين ومن ثمّ فإن القضاء على أفرادها لن يعني بالضرورة إنهاء وجودها الشعبي والفكري.