«في حضرة الشافعي».. هنا يبعث المصريون رسائلهم السرية إلى «القاضى المحايد»
«في حضرة الشافعي».. هنا يبعث المصريون رسائلهم السرية إلى «القاضى المحايد»
الأجواء روحانية، والطريق خالٍ من السيارات، على الجانبين مقابر عتيقة لموتى ينامون منذ مئات السنين لا يزعجهم الزوار الذين يسيرون هادئين، أمامنا لافتة مكتوب عليها: «شاكون وباكون وطالبون للعون.. ننتظر الرد على شكوانا من القاضى العادل المُحايد»، الآن نصل إلى مقام الإمام الشافعى، ثالث الأئمة الأربعة، وصاحب المذهب الشافعى فى الفقه الإسلامى، وأشهر قضاة مصر.
فى هذا المقام الذى يقع فى حى مصر القديمة، يرقد الإمام الشافعى منذ نحو ١٢٠٣ سنوات، لكنه ومنذ لحظة وفاته، لم ينقطع أهل مصر وغيرها من البلدان العربية والإسلامية عن زيارته، محبة فيه وفى سيرته العطرة، والتماسًا لنفحاته الطيبة التى نثر منها الكثير فى حياته، تاركًا للناس علمًا وفقهًا وعدلًا وخيرًا.
لا يوجد شبر فى هذا المكان، إلا وتتجلى فيه الروحانيات، فهناك من يذكر الله وحيدًا، ومن يذكرونه فى حلقات، وهناك من يرتل القرآن وهو يحمل باقة ورد مهداة إلى صاحب المقام، وآخر يدعو الله، وغيره يشكو من مظلمة أو يتمنى أمنية أو يرغب فى حاجة، وهناك من يحمل أسرارًا ولا يريد أن يكشفها إلا فى حضرة الشافعى نفسه، فيلقى رسائله الورقية إلى ضريح الإمام، من فتحات الحائط الأرابيسك الذى تحيط به، إنها حالة عامة من الجمال والوله.
تخبرنا المراجع التاريخية أن الإمام الشافعى، وُلد فى غزة عام ١٥٠ هـجرية، وانتقلت به والدته إلى مكة وعمره سنتان، وهناك حفظ القرآن الكريم وهو ابن ٧ سنوات، وأخذ يطلب العلم فى مكة حتى أصبح مفتيًا، ثم هاجر إلى المدينة المنورة طلبًا للعلم، ثم ارتحل إلى اليمن، ثم ارتحل إلى بغداد ودرس المذهب الحنفى، وبذلك اجتمع له فقه الحجاز «المذهب المالكى»، وفقه العراق «المذهب الحنفى».
ثم عاد إلى مكة وأقام فيها ٩ سنوات، ثم سافر إلى بغداد مرة أخرى، وفى سنة ١٩٩ هـجرية، سافر إلى مصر، وهناك وضع مذهبه الجديد الذى صار يدّرسه لطلبة العلم فى بلاد المحروسة، حتى توفى عام ٢٠٤ هـجرية، ٨٢٠ ميلادية، ودُفن فى مقامه الحالى بمصر القديمة.
بعد وفاته، أصبحت زيارة مقامه عرفًا وتقليدًا رئيسيًا لدى كل حكام مصر، حتى أمر السلطان صلاح الدين الأيوبى ببناء قبة ومدرسة حول قبره، وفى المكان نفسه دُفن الكثير من أفراد العائلة الأيوبية التى حكمت البلاد.
عن الإمام الشافعى وقصة بناء مقامه، يحدثنا المؤرخ الدكتور محمد حمزة، أستاذ الحضارة الإسلامية فى كلية الآثار بجامعة القاهرة، قائلًا: «الإمام ولد فى غزة سنة ١٥٠ هـجرية، وتوفى فى القاهرة سنة ٢٠٤، أى عاش ٥٤ عامًا، وخلال الفترة بين مولده وقدومه لمصر، ذهب للمدينة والعراق، ونهل من كل العلماء المعاصرين له العلم، من بينهم الإمام مالك فى المدينة، مضيفًا أنه قدم إلى مصر عام ١٩٨ هـجرية، وعاش فيها ٦ سنوات».
ويحكى عن الأجواء التى تواكبت مع مجىء الإمام لمصر، قائلًا: «فى الفترة بين عام ٢٠٠ و٢١١ هـجرية، استقل السرى بن الحكم بمصر، وأسس دولة وراثية مستقلة، وفى هذه الفترة كان الإمام الشافعى قد برع فى علوم الدين وأتى إلى مصر، وفى هذه الفترة أيضًا، جاءت السيدة نفيسة إلى البلاد، وماتت ودُفنت فيها سنة ٢٠٨».
ويضيف: «السرى بن الحكم هو أول من استثمر حب المصريين لآل البيت، وجعلهم يتمسكون بالسيدة نفيسة، ويثورون على زوجها، سعى بعد وفاتها أن يأخذها ويدفنها فى البقيع، وأصر المصريون على دفنها فى مصر، وبنى لها «السرى» مسجدًا».
ويكشف «حمزة» عن أن الإمام الشافعى قد التقى السيدة نفيسة فى مصر خلال تلك الحقبة، لدرجة أنه أوصاها بأداء صلاة الجنازة عليه عند وفاته، ويقول: «أوصى الإمام الشافعى السيدة نفيسة بأن تصلى عليه صلاة الجنازة قبل أن يصلى الناس عليه، وكان وقتها يشعر بدنو أجله».
ويحكى عن أجواء حياته وإسهاماته فى مصر، قائلًا: «حينما جاء الإمام الشافعى إلى مصر، وجد المذهب المنتشر هو مذهب الليث بن سعد، وكان يُلقب حينها بمفتى أهل مصر، والإمام مالك مفتى أهل المدينة، والاثنان عاصرا بعضهما، فالليث مات عام ١٧٥ هـجرية ومالك ١٧٩ هـجرية، وكانت هناك مقولة شهيرة قيلت حينها، وهى «رحم الله الليث كان أفقه من مالك، إلا أن أهله ضيعوه»، بمعنى أن تلامذته لم يعملوا على نشر مذهبه مثلما فعل تلامذة مالك».
ويتابع: «استفاد الشافعى من مذهب الإمام الليث بن سعد، وطوره، ووضع أهم كتابين له، هما (الأم)، و(الرسالة)، وكانت له زاوية فى مسجد عمرو بن العاص باسمه، يعلم الناس فيها أمور الدين والفتوى، وظلت الزاوية تمتلك أوقافًا كثيرة للإنفاق عليها، وكان فى الزاوية تلامذته يدرسون فيها من بعده».
أما مقام الشافعى الموجود حاليًا، فيكشف «حمزة» عن أن صلاح الدين الأيوبى هو من تولى تطويره وإنشاء مدرسة حوله وقبة ومقبرة كبيرة سميت باسم «المقبرة الأيوبية»، ويضيف: «صلاح الدين أول من اهتم بقبر الإمام الشافعى، لأنه كان شافعيًا على مذهب الإمام الحسن الأشعرى».
ويتابع: «صلاح الدين بنى ضريحًا حول القبر، ما زال موجودًا حتى الآن، ومؤرخًا عليه أنه بنى بتاريخ ٥٧٤ هـجرية، كما بنى مدرسة بجوار القبر لتدريس المذهب السنى، عُرفت باسم الناصرية نسبة إلى لقبه، والصلاحية نسبة إلى اسمه، واللوحة التأسيسية لها ما زالت موجودة فى المتحف الإسلامى بباب الخلق بالقاهرة».
ويكمل: «ونظرًا لاهتمام صلاح الدين بهذه المنطقة المباركة، زاد توافد الناس على المكان لتعيش وتُدفن فيه، وأصبحت المنطقة تعرف باسم القرافة الصغرى، وهى جزء من القرافة الكبرى التى كانت موجودة فى السابق»
ودفنت الملكة شمسة زوجة صلاح الدين فى تلك المقبرة، وكذلك ابنه العزيز عثمان، وزوجة أخيه العادل أم السلطان الكامل محمد، لذلك أقام الملك الكامل، قبة للإمام الشافعى، وهى أقدم قبة خشبية فى مصر.