عزيزي القاريء تحدثت معك في 4 مقالات سابقة عن أربعة أجزا أو أربعة أقسام من لحن: شيري ني ماريا مرد الإبركسيس الكبير. واليوم اريد أن أستكمل الحديث معكونغوص في الجزء الخامس والذي يعتبر مختلفا بالكلية في طبيعته وفي إيقاعاته ومقامه الموسيقي، لذا ينبغي لنا أن نفهم لماذا هو مختلف هكذا.

 
❖ الجزء الخامس من اللحن :-

يبدأ الجزء الخامس بطيئاً متلكئاً يجرجر نغماته في صعوبة بالغة وآلات البهجة الإيقاعية “الناقوس و المثلث” تصمتان برهة. إنها الرحلة الشاقة التي قامت بها العذراء مع يوسف النجار من الجليل حيث مدينة الناصرة إلى اليهودية حيث بيت لحم مدينة داوود، وذلك لأنه لما اقتربت أيامها لتلد في تلك الأيام صدر أمرُُ من أوغسطس قيصر أن يكتتب كل المسكونة كل واحدٍ في مدينته، فصعد يوسف إلى بيت لحم اليهودية لكونه من بيت داوود وعشيرته ليكتتبمع مريم امرأته، فكانت هذه الرحلة الشاقة وهي حبلى في شهرها التاسع، على دابة لتقطع مسافة تقترب من الثمانين ميلاً هي المسافة من الجليل شمال فلسطين، إلى بيت لحم جنوب اليهودية.

وهل تنتهي الرحلة بسرير وثير لتاخذ قسطاً من الراحة، لا … بل بسبب الإكتتاب وفد الكثيرون على بيت لحم فلم يجد يوسف النجار ومريم مكاناً في المنزل (الفندق) فلم يكن لهما هناك سوى هذه المغارة التي كانت بمثابة حظيرة للحيوانات.

رحلة شاقة لا تنتهي براحة بل باستمرار للتعب فكيف يكون اللحن إلا هكذا متلكئاً بطيئاً، إنما سرعان ما يتحول الإيقاع البطئ بتدرج نحو السرعة فيدب النشاط في اللحن إعلاناً للميلاد المجيد.

ميلاد فيه “ولدت ولداً بغير والد، من طلقٍ لم يتقدمه مخاض بقوة تفوق الطبيعة” كقول القديس اندراوس اسقف أورشليم(ميمر دخول السيدة العذراء إلى الهيكل الذي يُقرأ يوم 3 كيهك).

هذا الميلاد الذي حدث سنة 5501 للخليقة والذي به تبدد الخوف والظلام في ليلة قارسة البرد استيقظ فيها الرعاة على الصوت الذي لا يمكن أن ينسوه “لا تخافوا … فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب، إنه ولِد لكم اليوم مخلص هو المسيح الرب”.

إنه خبر … تحولت فيه البشرية جمعاء من الظلمة إلى النور، لذلك يتحول المقام الموسيقي وتظهر نغمة لا b لاول مرة في اللحن وتظهر حولها نغمة أخرى هي مي b، إنه تغيير جذري للسلم الموسيقي إنه سلم جديد أليست هي كذلك… ألم تلقب مريم بأنها سلم يعقوب التي رآها منصوبة على الأرض ورأسها يمس السماء وملائكة الله صاعدة ونازلة عليها (تك 10:28) أن الرب استخدم جسد العذراء ليكون سلماً ينزل به إلى أرضنا، وهذا الملحن القدير استخدم هذا السلم الموسيقي الجديد ليصعد بنا إلى مستوى الإبن المتجسد الذي تواضع ليرفعنا، فكان موفقاً في إختيارهذه اللحظة لتغيير المقام الموسيقي.

ولعل القارئ المستمع إلى اللحن يتساءل، لماذا في هذا الجزء من اللحن والذي يتغير فيه السلم الموسيقي وتظهر فيه علامات النصف بيمول لنغمتي الـ “مي” و “لا” تبدو هناك لمسة حزن طفيفة، فالمعروف دائماً أن علامات الخفض “النصف بيمول” في الموسيقى دائماً ما تعطي نبرة حزينة وطعماً داكناً لا يتناسب والحدث الميلادي العجيب.

والإجابة على هذا السؤال تنحسر في جزئين هما:-
1- أن هذا اللحن هو لحن للعذراء والدة الإله “الثيؤتوكوس” وليس لحن للمولود من العذراء. لذا فالقديس الذي صاغ هذا اللحن لم يقصد في هذا الجزء تجسيد أحداث الميلاد العجيب كميلاد للإبن الكلمة، لكنه بينما هو يستعرض رحلة العذراء تعرض في سياقها للميلاد فلم يستطع أن يغفله، كما لم يستطع أن يتمركز حوله تاركاً موضوع اللحن وهو سيرة العذراء ورحلتها.
2- إنه بعد الميلاد عندما دخل بالصبي يسوع أبواه ليصنعا له حسب عادة الناموس، ليقدموه للرب – كانت التقدمة الواجبة للمرأة التي تلد إبناً ذكراً هي كبشاً حولياً (بن سنة) لتقدمة المحرقة، وحمامة صغيرة أو يمامة لذبيحة الخطيئة- أن سمعان الشيخ هذا الرجل البار النقي الذي كان ينتظر تعزية اسرائيل والروح القدس كان عليه، وكان قد أوحى إليه بالروح القدس أنه لا يرى الموت قبل ان يرى تسبيح الرب، هذا عندما أتى بالروح إلى الهيكل أخذ الصبي على ذراعه وبارك الله وقال “الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام لأن عينيّ قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته قدام وجه جميع الشعوب. نور إعلان للإمم ومجداً لشعبك إسرائيل”. وباركهما سمعان وقال لمريم “ها إن هذا وُضع لسقوط وقيام كثيرين في اسرائيل ولعلامةٍ تقاوم. وأنت أيضاً يجوز في نفسك سيفُ، لتعلن أفكار من قلوب كثيرة) (لو22:2-35).

لذلك فإن هذا الرجل البار عندما أدرك بالروح الخلاص الذي صنعه الرب في ذات الوقت أدرك أيضاً هذا السيفوهو يجوز في نفس العذراء الأم.

أيُ سيف هذا الذي رأيته أيها الشيخ سمعان، هل سبقت الزمن ورأيت منظر الجلجثة والصليب من بعيد يظهر، ويسوع معلقاً عليه كالمجرمين هذا الذي بلا خطية، وصار خطية لأجلنا وهل رأيت العذراء تنظر إلى فوق إلى الراعي مخلص العالم وهي تبكيه قائلة “أما العالم فيفرح لقبوله الخلاص أما أحشائي فتلتهب عند نظري إلى صلبوتك الذي أنت صابر عليه من أجل الكل يا إبني وإلهي..” (من قطع الأجبية)

لذلك كان على هذا الملحن أن عندما يمر بالميلاد أن لا ينسى أيضاً هذا السيف الذي يجوز في العذراء فكانت هذه اللمسة الشبه حزينة المغلفة لللحن في هذا الجزء.

إلا أنه بالتدقيق في الصياغة الموسيقية للحنبصورةأشمل، نجد أن هناك ربط موسيقي بين الحوار القصير المتماثل الذي ظهر فيه الغليان النغميفي الجزء الرابع الذي عبر به الملحن أنذاك عن قطبي اللقاء العذراء وأليصابات وحوار آخر مماثل في الشكل الإيقاعي ومقارب في الشكل النغمي – إلى حد كبير – في هذا الجزء الخامس. ولعل هذا الربط له فائدة موسيقية هامة تجعل اللحن غير مفككاً ومتماسكاً. إلا أنه ربما كانت له فائدة أخرى ليصور قطبي اللقاء (مريم وسمعان الشيخ) في هذا الجزء الخامس من اللحن.

عزيزي القارئ سوف أكتفي بهذا القدر من شرح الجزء الخامس من لحن: شيري ني ماريا مرد الإبركسيس الكبير.وإلى اللقاء في المقال القادم لكي نستكمل معا هذا الجزءالخامس الغني بالمعاني والنغمات والتأملات من هذا اللحنالرائع ” فإلى أن التقى بك أتركك تستمتع بنغماته العذبةالممتلئة بالروحانية.

رابط اللحن: