عندما تحدثنا الأشياء عن أسرارها


هذا العقل يواجه مشكلة حقيقية مرتبطة بالحبكة غير المرئية التي تمثل جوهر الأشياء التي نراها عادة، وغالباً ما يقع هذا العقل في أسر ما يراه ظاهراً ولا يستطيع أن يتجاوز الظاهر، لذلك يصعب القول: إن عقلنا النقدي في مجال العمارة يمكن أن يصل للنضج قريباً.

قبل فترة وجيزة قلت لأحد الزملاء: إذا كنت تستطيع أن ترى الصورة التي أمامك بعمق ووضوح فأنت موهوب، فاستغرب من قولي هذا، وقال: إن الجميع يستطيعون أن يروا الصور التي أمامهم بوضوح، ولم يعلق على «بعمق»، والحقيقة أنني أقصد هذا الكلام حرفياً، أي أن القدرة على رؤية الأشياء موهبة لا تتاح لكل إنسان. كيف ترى الصورة التي أمامك وتقرأها وتفك رموزها أو تصل إلى معانيها، فهذه قدرة يتمتع بها قليل من الناس، قلت لصاحبي: إنني سمعت هذا من أستاذي في كلية العمارة قبل أكثر من ثلاثة عقود، وقال: نحن المعماريين ومعنا ثلة قليلة نتميز بأننا نستطيع أن نرى الأشياء بطريقة تختلف عن بقية الناس. ولم أفهم هذه العبارة بشكل كامل في تلك الفترة، لكن كل ما كنت ألاحظه هو أن هناك رابطة بين ما نراه وبين مشاعرنا ويعزز هذه الرابطة المعرفة التي نملكها حول ما وراء الصور التي نراها أو معانيها ورموزها العميقة، كما أن تفكيك هذه الروابط بين ما تراه العين وما يدركه العقل وما يحرك الشعور في اللحظة نفسها يتطلب تدريباً عفوياً مستمراً، وتعوداً على رؤية الأشياء مكشوفة دون غطاء.

هذا على وجه التحديد ما يفترض أن يقوم به الناقد في مجال العمارة والفنون وربما في الأدب وجميع المجالات الإبداعية، فعندما تتواصل معنا الأشياء وتحدثنا عن نفسها فهذا يعني أن موهبة «التحدث» مع الأشياء نمت وتطورت لدى الناقد، وهي موهبة لا يستهان بها لأنها تمكن الناقد من «صناعة الرأي». حاولت أن أختبر هذه الفكرة على طلابي وطالباتي للدكتوراة الذين اعتبرهم مجموعة من النقاد في طور بناء مهارة رؤية الأشياء عارية، فهدف البحث النقدي في العمارة هو تعرية الأشكال وفهم الأسباب التي ساهمت في تكوينها، وهذه النتيجة لا يمكن الوصول لها بمجرد رؤية الأشياء بل من خلال بناء مهارات لا يملكها معظم الناس تمكن الناقد من رؤية ما لا يراه معظم الناس، وأذكر هنا أن أول لقاء مع مشرفي على رسالة الدكتوراة قبل 28 عاماً تقريباً، أنه وضع أمامي مقالاً كان عنوانه «المعنى الكامن في العمارة»، وأنا طبعاً على يقين أن هذا العنوان من الممكن أن يكون المعنى الكامن في الشعر أو السينما وغيرها،

سألني ماذا تفهم من هذا العنوان؟ فلم أجبه إجابة واضحة، فقدم لي مقالاً آخر دون أن يجيب عن السؤال الأول، وكان عنوان المقال «ما وراء العمارة»، فقلت له: أنا موجود هنا لدراسة ما هو موجود وما هو مشاهد، وما هو محسوس، فقال لي بنبرة جادة، وهذا الفرق بين من يستنطق الأشياء ويحدثها وتكشف له أسرارها، وبين من تهيمن عليه الصور التي يراها وتقوده: فهل أنت الذي ستقود ما تراه أو هو الذي سيقودك؟ ويبدو أن هذا السؤال كان محورياً في لقاء التعارف ذاك، لأنه كان يعني هل سأمتلك موهبة أن أكون ناقداً في العمارة أو لا؟ هل ستهيمن على مخيلتي الأشكال التي أراها وتحتويني أو أنني سأقف دائماً في موقف مستقل عما أراه وأنفذ إليه وأفككه من داخله؟ ورغم أن الحوار انتهى عند هذه الإجابة إلا أنه قال لي: اقرأ هذه المقالات وحاول أن تقيم قدرتك على بناء «صداقة» مع الأشياء التي تراها وفتح «حوار» معها.

تجربتي مع طلابي كانت حول هذه المسألة، التي يبدو أنها غريبة على آلية التفكير لدينا، فروتين البحث العلمي ومناهجه المتعارف عليها، تتصادم مع فلسفة استنطاق الأشياء، وحتى ينتقل الباحث إلى تفكير تأملي فلسفي يفترض أن يخوله للنفاذ إلى الأشياء التي يراها (بما في ذلك الأشكال المعمارية)، ويعيد تقديمها بأسلوب نقدي يكشف الأسباب وشبكة الروابط الداخلية التي ساهمت في خلق هذه الأشياء، وفي الوقت نفسه الكشف عن العلاقات الخفية بين هذه الأشياء تجعل لترابطها معنى، أقول: إن مثل هذه المهارة لا تحتاج اتباع المنهج العلمي المتعارف عليه بل يجب أن تتطور من خلال خلق مختبر للأفكار.

لن أدعي أن التجربة كانت ناجحة بشكل مرضي، لكنها كشفت، على الأقل بالنسبة لي، أن العقل المعماري الذي ينشأ ويكبر في مجتمعنا يفتقر لكثير من المخيلة التي تؤهله للنفاذ إلى ما يراه، وهذا العقل يواجه مشكلة حقيقية مرتبطة بالحبكة غير المرئية التي تمثل جوهر الأشياء التي نراها عادة، وغالباً ما يقع هذا العقل في أسر ما يراه ظاهراً ولا يستطيع أن يتجاوز الظاهر، لذلك يصعب القول: إن عقلنا النقدي في مجال العمارة يمكن أن يصل للنضج قريباً.

نقلاً عن "الرياض"

تاريخ الخبر: 2022-12-31 15:18:33
المصدر: العربية - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 83%
الأهمية: 94%

آخر الأخبار حول العالم

«الشورى»: خالد السيف رئيساً للجنة التجارة والاستثمار - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-09-20 00:25:44
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 65%

آمال عريضة بعودة النواخذة لمنصات التتويج السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-09-20 00:25:47
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 59%

دوري أبطال أوروبا.. ليفركوزن يعود من روتردام بفوز كاسح

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-09-20 00:25:36
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 62%

جوشوا: جاهز للمواجهة.. ودوبوا يرد: أنا هنا لأثبت نفسي - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-09-20 00:25:40
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 55%

دوري أبطال أوروبا.. ليفركوزن يعود من روتردام بفوز كاسح

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-09-20 00:25:41
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 53%

أدب تختتم ورشة عمل ترجمة الكتاب الأول بجدة السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-09-20 00:25:46
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 57%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

pendik escort
betticket istanbulbahis zbahis
1xbetm.info betticketbet.com trwintr.com trbettr.info betkom
Turbanli Porno lezbiyen porno
deneme bonusu
levant casino levant casino levant casino levant casino levant casino levant casino
bodrum escort
deneme bonusu veren siteler
Bedava bonus casino siteleri ladesbet
deneme bonusu veren siteler
deneme bonusu
deneme bonusu
sex ki sexy
deneme bonusu
kargabet
تحميل تطبيق المنصة العربية