دفع انفجار التقنيّة العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة عمومًا إلى دائرة الإهمال، وركزت بلدان كثيرة الاهتمام على "علوم العصر"، حتى في الغرب الذي ارتبط تطوّره بتطوّر العلوم الإنسانيّة، حيث تواجه البحوث الاجتماعيّة صعوبات في التمويل في مقابل التهافت على تبني الأبحاث ذات الصلة بالعلوم والصناعات الرائجة، من قبل الخواص والدوائر الحكوميّة على حد سواء.
وباتت دراسة العلوم الإنسانيّة عندنا، مثلًا، مرتبطة بالحصول على الحدّ الأدنى من معدلات النّجاح في البكالوريا، حيث تفضّل العائلات الدفع بأبنائها نحو التخصّصات المطلوبة في سوق العمل أو التي تضمن "الوجاهة".
وتربطُ النّخب السيّاسيّة بين تطوّر المجتمع و التطوّر التقني في خطاباتها، ما زاد من هشاشة العلوم الاجتماعيّة التي تواجه سوء تقدير اجتماعي أيضا.
و إذا كانت الأصوات تتعالى في الدول المتقدمة للتفكير في مستقبل العلوم الاجتماعية، ما دفع "اليونيسكو" إلى إطلاق مبادرات لإحياء الاهتمام بهذه العلوم، فإنّ التطورات السريعة للمجتمع وتعقيدات الحياة المعاصرة تنبهنا إلى ضرورة الموازنة بين الحاجة إلى التقنيّة والتفكير العلمي في الحياة اليومية، لتجاوز التعقيدات المتراكمة التي يتسبّب فيها تغيير اجتماعيّ متسارع بسبب تزايد المتدخلين في التّنشئة الاجتماعيّة والمؤثرين الذين "يخطفون" الأفراد من مجتمعاتهم الأصليّة و"يجودون" عليهم بقيّم جديدة هي نتاج العولمة والتواصل غير المحدود بين سكّان كوكبنا.
ومن الضروري أن يقف اليوم "المجتمع العلمي" في وجه العاصفة و ينادي بتوسيع التخصّصات الاجتماعيّة للتمكّن من مُلاحقة التغيّرات وفحص الظواهر الطارئة، فالتقنيّة وإن قدمت لنا فرص الرفاهيّة وتطوير الحياة، فإنّها لن تساعدنا على فهم ما يحدث وعلى حلّ المشاكل الاجتماعيّة المرتبطة بمتغيّرات يصعب رصدها من دون أدواتٍ علميّة، كما أنّ تدبير السياسات التنموية والاجتماعية يحتاج إلى إسنادٍ معرفي تختصّ به العلوم "المنبوذة"، التي تبدو الحاجة إليها غير قابلةٍ للإغفال، خصوصا في بلدٍ يتمتّع بالغنى والتنّوع الثقافي والاجتماعيّ والجغرافيّ كالجزائر، فواضع المشاريع ومنفذها يحتاجان إلى الدراسة الاجتماعية التي توفّر قاعدة صحيحة وتكشف الخلفيّات التي لن يراها الإداري مهما بلغت عبقريته، والجواب الصحيح على المشكلات يتطلّب الدراسات ذاتها التي لا تقلّ شأنا عن الدراسات التقنيّة والفنيّة التي يتم إبرازها للبرهان على براعةٍ، قد تظهر أعراض فقرها المعرفي بعد فوات الأوان.
سليم بوفنداسة