كلمات في وداع عميد الاستنارة السودانية


رشا عوض

يشرفني في هذا اليوم أن أكون حضورا في مقام الوفاء لأستاذنا الراحل المقيم عبد العزيز حسين الصاوي، الذي تربطني به أنبل وأعظم وشائج الوصال، رغم انني لم ألتقيه وجها لوجه الا مرة واحدة على هامش ندوة في الخرطوم، ولكن صلتي به نشأت وتعمقت في فضاءات الفكر، وميادين البحث الامين والكدح المخلص في سبيل استنهاض وطننا وتحديثه.

وقد كان له في هذا المجال مساهمات نوعية، وإشراقات خالدة، ومنهج تفكير رائد ، ومواقف ملهمة، يستحيل ان تحيط بها إجمالا او تفصيلا هذه الكلمات الموجزة التي تقف خجولة الآن امام الصرح التنويري الذي أورثنا إياه عميد الاستنارة السودانية.

حقيقة لم اجد كلمات أصف بها ما يعتصرني من مشاعر حزن واسى لغياب الصاوي الذي أشركني كثيرا في مناقشة أطروحاته القيمة، وما زالت رسائله في بريدي الإلكتروني وتعليقاته على كتاباتي المتواضعة وكتبه العظيمة التي أهداني إياها أوسمة شرف وقلائد من نور ستظل مطبوعة في ذاكرتي ووجداني ما حييت، وسوف تحفزني دوما لاستكشاف أشمل وأعمق لمشروعه الفكري، وتأملاته النقدية وأطروحاته الاستراتيجية في قضية توطين الديمقراطية في السودان.

إن أكثر ما استوقفني في مشروع الصاوي الفكري وتجربته السياسية هو منهجه في توطين الديمقراطية في السودان في سياق مشروع حداثي مرتبط عضويا بالاستنارة، وعبقرية الصاوي في ذلك لم تنحصر في التأسيس النظري والكتب العظيمة التي أثرى بها المكتبة السودانية، بل اقترن الموقف الفكري لديه بشجاعة آسرة في مواجهة الذات الفردية والحزبية بالنقد الصارم الذي كان محوره الالتزام بالديمقراطية كثقافة سياسية، وعلى خلفية ذلك بلور الصاوي رؤية نقدية جذرية لتجربة حزب البعث – الذي كان هو من مؤسسيه في السودان – سواء على المستوى القومي أو على مستوى السودان، وهنا تجلت روح الاستنارة والتجديد التي ميزت كل المساهمات الفكرية الرصينة للصاوي ممثلة في إعلاء التفكير النقدي وإعماله في تقييم وتقويم التجربة البعثية بجرأة وصرامة منهجية تعكس المصداقية والجدية في الانحياز المبدئي للديمقراطية، ونبذ الشمولية بتعرية الإرث الشمولي والتبرؤ منه، ليس على المستوى اللفظي والخطابي فقط، كما يفعل كثيرون، بل التبرؤ منه عبر مشروع فكري تجديدي يبدأ بنقد الذات وتفحص عيوبها ونقائصها بشجاعة وموضوعية بعيدا عن المكابرات الآيدولوجية وبعيدا عن الاتكاءات الكسولة على وسادة نظرية المؤامرة الصهيونية والامبريالية.

إن محاولة بناء تيار تجديدي ديمقراطي في حزب البعث العربي الاشتراكي بحيث تكون أبرز ملامحه الاستقلال عن مركز القيادة القومية للحزب استجابة لخصوصية الواقع السوداني، والدعوة للتجديد الفكري والسياسي والتنظيمي باتجاه تعميق الممارسة الديمقراطية داخل الحزب، جديرة حقا بالاحتفاء، ليس في اوساط البعثيين فحسب بل في اوساط كل الحادبين على الديمقراطية في السودان، ورغم ان بناء مثل هذا التيار قد تعثر حسب شهادة الصاوي نفسه التي لخصها بقوله في مقالة نشرت بصحيفة الصحافة السودانية عام 2011 قال فيها ” ان هذه المحاولة فشلت، فلم يبق له من البعث الا أجر المحاولة وبعض الدم السوري والعراقي في عنقه”.

ورغم ان الألم يعتصرنا هذه الايام ونحن نرى قيادات “البعث السوداني” الذي كان بارقة التجديد المنشود في صف الانقلاب على الديمقراطية، إلا انني لا اتفق مع الراحل المقيم في قسوته على نفسه ، وان كل المتبقي له هو أجر المحاولة وبعض الدم السوري والعراقي، لأن أفكار الاستنارة والتجديد التي غرسها الراحل المقيم، ستظل طاقة كامنة حتما ستنطلق يوم يأت رجالها ونساؤها سواء من داخل اسوار البعث او من خارجه، فالتجربة في جملتها نموذج حي لمكابدة استصلاح تربتنا الفكرية والثقافية والسياسية لغرس الديمقراطية ، وستكون هذه التجربة زادا لكل الكادحين في هذا الاستصلاح لأنه ببساطة طريق المستقبل.

تميز الصاوي بحرصه على كشف معوقات الديمقراطية في الواقع السوداني بحفريات عميقة في العقل السياسي، وما انتجه من ثقافة سياسية مغتربة بطبيعتها عن الديمقراطية، وفي ذات الوقت اجتهد في تنقيب مثابر عن بذور التنوير وبعض إشراقاته في واقعنا السوداني، لهدف استراتيجي كبير وصعب ونبيل وهو “استزراع الديمقراطية في الواقع السوداني” ، ففي سياق استكشافه لأزمة الديمقراطية السودانية انتقد الصاوي بصرامة قطبي اليسار السوداني(الحزب الشيوعي وحزب البعث العربي الاشتراكي) رغم دوره التأسيسي في احد هذين القطبين! حيث أشار في مقالته” ثورة أكتوبر:زرع اليساريون وحصد الإسلاميون” الى ما أسماه الوجه الآخر لثورة أكتوبر 1964 الذي بقي محجوبا وهو ان الاحزاب اليسارية في نقدها الصائب للأحزاب التقليدية، ساهمت في تثقيف نخبها وقياداتها بتحليلات أضعفت التأهيل الديمقراطي ، وشرح أسباب ذلك، وخلص الى القول بان” ان قطبي اليسار السوداني، على الاختلاف الكبير في الاوزان بينهما، ظلا يتنافسان في حرث عقلية القوى الحديثة التي صنعت انتصار اكتوبر 64 الديموقراطي الكبير وبذر البذور الأولى للشمولية فيها بدلا من الاستمرار بدور اليسار التحديثي والنهضوي التاريخي بالتركيز على كيفية استزراع الديموقراطية في الواقع السوداني”
في اعتقادي اننا إذا أردنا توطين الديمقراطية كفلسفة حكم، وكثقافة سياسية فإن كل تيار فكري وسياسي في مجتمعنا يحتاج لقبس من نور الصاوي ، وابهى تجليات نوره هو ذلك الكدح المخلص ” لتجذير الفكر الديمقراطي في المجتمع بشكل عام، وفي أوساط النخب القائدة والقوى الفاعلة بوجه خاص، وطرح قضية “الاستنارة” كقضية محورية في بناء الديمقراطية في السودان التي أفرد لها مقالات متفردة حواها كتابه “لاديمقراطية بدون استنارة” وفيه عرَّف “الاستنارة” بالانفتاح الذهني والنفسي على الحداثة وأهم منجزاتها الديمقراطية، وفي هذا السفر العظيم شرح الصاوي معوقات الديمقراطية في الواقع السوداني الراهن ومنها انحسار الطبقة الوسطى بسبب عوامل تجريف اقتصادي واجتماعي محددة، وتبعا لذلك انحسار التنوير وحالة التصحر الديمقراطي، وفتح نافذتين للأمل في تجذير الديمقراطية وهما “الإصلاح التعليمي” وتقوية”المجتمع المدني” .

ومن إشراقات الصاوي الباذخة والملهمة بحق هي إقدامه الشجاع على دفع استحقاقات التحول الديمقراطي في حزب البعث والتيار القومي الذي انتمى اليه بشجاعة تمثلت فيما كتبه بوضوح في الإدانة السياسية والأخلاقية لكل ما اقترفه حزب البعث في كل من العراق وسوريا من جرائم القمع وانتهاك حقوق الإنسان والمجازر الكبيرة والإهدار التام لمبادئ الحكم الراشد، فعبارته الملهمة التي عنون بها مقالة ضافية عن مجازر نظام بشار الأسد في سوريا، و جعلها ملخصا لتجربته في حزب البعث ” لا يبقي له الا بعض الدم السوري، والعراقي أيضاً، في عنقه” هي درس بليغ ، وإحياء للروح المفقودة في كل احزابنا وتياراتنا الفكرية السادرة في مغالطاتها ومنهجها التبريري وتنصلها عن المسؤولية، علما بأن بعضها خاض في الدم الحرام بيديه ورجليه وما زال يكابر!
انني رغم عدم انتمائي لحزب البعث ، لمست في تجربة الصاوي مصدر إلهام لكل من يحرص على بناء تجربة ديمقراطية ناضجة في السودان، إذ لا بد ان يدفع هذا الحرص الى الرهان على انتصار التيارات المستنيرة الجادة في التجديد والإصلاح الديمقراطي في مختلف الأحزاب ، فإذا لم تستأصل بذور الفكر الانقلابي من وعي النخب القيادية في كل الأحزاب، وإذا لم تستوطن الديمقراطية في المرجعيات الفكرية للأحزاب وتتجسد سلوكا وممارسة في طرائق إدارتها واختيار قياداتها واتخاذ قراراتها، فلا أمل في ازدهار الديمقراطية في الفضاء العام.

ختاما، كم أشعر بمرارة فقد الصاوي، وكم افتقد حضوره وتفاعله الذكي واختياره المبدع لزوايا غير تقليدية في توصيف وتحليل ما يجري من تطورات على الساحة السودانية والعربية والعالمية.

غاب عنا الصاوي في ظرف وطني عصيب ونحن احوج ما نكون لقدراته الاستثنائية في التفكير خارج الصندوق وإضاءة الجوانب المعتمة باقتدار.
رحم الله الصاوي واسكنه فسيح جناته.

تاريخ الخبر: 2022-10-02 06:22:43
المصدر: صحيفة التغيير - السودان
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 59%
الأهمية: 61%

آخر الأخبار حول العالم

كمين محكم يطيح بتاجر مخدرات بسيدي سليمان

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-09-20 06:07:52
مستوى الصحة: 64% الأهمية: 79%

«طيور الظلام».. محرضون ودعاة فتنة - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-09-20 03:25:14
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 50%

«الحليمي» يهدد النساء - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-09-20 03:25:08
مستوى الصحة: 53% الأهمية: 55%

لماذا التزم حسن نصر الله الغموض حول طبيعة رد الحزب على اسرائيل؟

المصدر: الأيام 24 - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-09-20 06:07:58
مستوى الصحة: 60% الأهمية: 80%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

pendik escort
betticket istanbulbahis zbahis
1xbetm.info betticketbet.com trwintr.com trbettr.info betkom
Turbanli Porno lezbiyen porno
deneme bonusu
levant casino levant casino levant casino levant casino levant casino levant casino
bodrum escort
deneme bonusu veren siteler
Bedava bonus casino siteleri ladesbet
deneme bonusu veren siteler
deneme bonusu
deneme bonusu
sex ki sexy
deneme bonusu
kargabet
تحميل تطبيق المنصة العربية