كان الظهور بهذا الشكل في حد ذاته رسالة تحمل كثيراً من المعاني لأخطار طارئة، حسب وجهة نظرهما، وكذلك كان أيضاً محتوى تصريحاتهما التي ذهبت مباشرة، وبعيداً عن لغة الساسة التي توارب، إلى اعتبار الصين الخطر الحقيقي الذي يهدد تفوق الغرب. هنا نلمس تلميحاً من وراء تحذيراتها للساسة الغربيين بأن نُواحكم على أوكرانيا بسبب روسيا سينقلب لطماً على تايوان بسبب الصين.

عمليات التجسس الصينية على الشركات والحكومات الغربية لسرقة البيانات وبراءات الاختراع ليست وليدة اللحظة. فهذه واحدة من أبرز السياسات التي اعتمدتها الصين منذ عقدين من الزمن، وتأتي ضمن خطة النهوض التي رسمتها لنفسها من أجل اللحاق بالركب الغربي. فمن أجل عملية اللحاق هذه، كان على الصين أن تستثمر قدراً هائلاً من المال وعلى مدار سنوات مديدة، ولأنها تسابق الزمن مع الغرب، ولا تملك البحبوحة من المال والزمن، فقد اختارت أن تسلك طريقاً مختصراً تمثل في سرقة البيانات. وجراء هذه السرقات فتشير تقديرات إلى أن الولايات المتحدة تخسر سنوياً بين 20 و30 مليار دولار، وهي خسارة لا تتضمن عمليات التجسس الأخرى التي يتم فيها توظيف العملاء على سبيل المثال. التقديرات ذاتها تشير إلى أنه وخلال عقدين من الزمن فإن التكلفة الإجمالية التي خسرتها أمريكا جراء هذا النوع من التجسس قد تصل إلى 600 مليار دولار، وهو رقم أقل ما يمكن أن قال عنه بأنه مهول!

كان ماكالوم واضحاً بهذا الصدد عندما حذر الرؤساء التنفيذيين للشركات الغربية بأن الصين عازمة وبشكل حثيث على سرقة تقنياتكم باستخدام عديد من الأدوات المتخلفة منها "التجسس الإلكتروني والخداع". وذكر حادثة وقعت مؤخراً عندما قدمت شركة صينية عرضاً سخياً لخبير طيران بريطاني، والذي سافر بدوره إلى الصين مرتين لإتمام العقد وإجراء مقابلات العمل، لاحقاً اكتشفت المخابرات البريطانية أن ما كان يجري على أساس أنه مقابلة عمل ما هو إلا غطاء لتحقيق استخباراتي، فالخبير البريطاني لم يكن يجلس مع موظفي الشركة الصينية بل مع رجال استخبارات. تباعاً قامت وكالة M15 بمشاركة المعلومات الاستخباراتية عن التجسس الصيني مع أكثر من 37 دولة حول العالم. وهذا يعني أن نطاق هذه العمليات يأخذ بعده العالمي بما يشبه عولمة التجسس.

من جانبه وجه كريستوفر وراي انتباه الجمهور نحو تقنيات أخرى أو مجالات أخرى للتدخل الصيني في الحياة الغربية تشمل قطاعي الصناعة والسياسة. هنا أشار وراي إلى حالات قام فيها أشخاص مرتبطين بشركات صينية في المناطق الريفية بأمريكا بمحاولة سرقة بذور معدلة جينياً كلفت مليارات الدولارات ونقلها إلى الصين. يبدو هذا منطقياً حسب وجهة نظر وراي نظراً لتأخر الصين في تقنيات تربية البذور وهو ما بات يخلق لديها فجوة بين عرض الحبوب وطلبها الأمر الذي ربما يفاقم تردي الأمن الغذائي في بلاد يقطنها مليار و400 مليون نسمة. يظهر تأخر الصين في هذا القطاع بالنظر إلى حجم مشاركة القطاع الخاص فيه. فبينما تسيطر الشركات الخاصة الأمريكية على ثلاثة أرباع البحث العلمي الخاص في هذا المجال، فإن الشركات في الصين لا تسيطر إلا على 10 أو 20 في المئة فقط منه. ويعود السبب في ذلك إلى أن هذا القطاع مجزأ في الصين ولا يتضمن إلا نحو 6400 شركة عاملة من الحجم الصغير فقط.

سياسياً أشار وراي إلى محاولة الصين التدخل لإسقاط أمريكي من أصول صينية وحرمانه الترشح للانتخابات بسبب مشاركته سابقاً ناشطاً في احتجاجات ساحة تيانانمن التي جرت في العاصمة بكين نهاية تسعينيات القرن الفائت. ويشير وراي هنا إلى واقعة شيونغ يان. فحسب المدعين الفيدراليين في بروكلين فإن عميلاً للحكومة الصينية يدعى Qiming Lin قام بالاستعانة بمحقق خاص في الولايات المتحدة لمساعدته في اختلاق فضيحة سياسة بشأن شيونغ يان ولذلك لحرمانه الترشح عن الحزب الديمقراطي للمنافسة على مقعد مجلس النواب الأمريكي ممثلاً عن الجزء الشرقي من لونغ آيلاند بنيويورك.

يعود وراي للتأكيد على أنه من بين كل هذه المخاطرة المحدقة بالغرب ومصدرها الصين يبقى التجسس الإلكتروني متربعاً على عرشها. على سبيل المثال، خسرت الولايات المتحدة ما يقرب من 100 مليار دولار سنوياً بسبب جرائم الإنترنت وذلك فقط في العقد السابق لاتفاقية أوباما-شي والتي جاءت بشكل شبه حصري لوضع حد للسرقة الصينية لبراءات الاختراع الأمريكية. كان لدى إدارة أوباما تخوف حقيقي من المدى الذي وصلت إليه الصين في هذا المضمار وبات يؤثر بشكل مباشر على الاقتصاد الأمريكي. فوجدت الأبحاث التي أجرتها إدارة التجارة الدولية والاتحاد الأوروبي أن مليار دولار من الصادرات تخلق ما يقرب من 6000 فرصة عمل. ولذلك فإن سرقة مئات المليارات من براءات الاختراع يعني ضمنياً أن الولايات المتحدة قد تفقد مئات الآلاف من الوظائف سنوياً. وهذا ما التفت إليه الرئيس دونالد ترمب وحاول أن يضع له حداً ولكن هذه المرة ليس عبر الاتفاقيات الثنائية مع الصين بل عبر العقوبات الاقتصادية.

بطبيعة الحال لم تصل التقنية الغربية إلى الصين عبر عمليات التجسس والقرصنة والسرقة وحسب بل هناك جزء كبير من هذه التقنية وصل عبر مقاربة التقنية مقابل السوق. فقد رضيت العديد من الشركات مشاركة جزء من أسرارها التكنولوجية مع الحكومية الصينية وذلك طمعاً من أجل الدخول للسوق الصينية الضخمة على اعتبار أن العائدات من هذه السوق ستفوق حتماً الخسائر المترتبة على المشاركة التكنولوجية.

حاولت الولايات المتحدة التوصل إلى حل وسط مع الصين إبان إدارة الرئيس أوباما ولكن ذلك لم يصمد كثيراً. منذ ولاية الرئيس ترمب فإن التنافس، وربما الحرب، مع الصين يأخذ شكلاً تصاعدياً. وهو توجه ربما سيستمر في المستقبل. وتزداد الأمور خطوة مع تداخل عوامل أخرى من قبيل الحرب الروسية الأوكرانية التي ساهمت في تعزيز الاستقطابات على المستوى العالمي. وكان واضحاً أن الصين تأخذ جانب روسيا من القصة. ويوجد تخوف غربي كبير من أن ترتفع ثقة الصين بنفسها وتقوم بغزو تايوان وضمها إلى أراضيها الأمر الذي سيجعل المعركة بين الصين والغرب مفتوحة على مصرعيها. ونظراً إلى أن الصين لا تشكل تحدياً أمنياً للغرب وحسب بل تحدياً تكنولوجياً وتجارياً، فإن حرباً مفتوحة مع الصين ستكون تكاليفها باهظة على الغرب، والعالم أجمع، وهو ما يفهمه جيداً القادة الغربيون ويحاول الأمنيون منهم العمل على تفاديه من خلال العمل المشترك مثل جهازي الـ FBI الأمريكي وM15 البريطاني.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.



TRT عربي