ملامح استراتيجية الصدر المقبلة


في عملية البحث عن الخطوة المقبلة لزعيم التيار الصدري قد يكون من الخطأ التنبؤ بخطوة متوقعة، إذ انه يسعى وبشكل مستمر لأن يسبق خصومه في الاطار التنسيقي بخطوات، واثبت اداءه السياسي خلال الأشهر الماضية ان الخطوات غير التقليدية تمثّل احدى مصادر القوة السياسية التي يمتلكها السيد مقتدى الصدر.

فعشية انعقاد مجلس النواب العراقي لأستبدال النواب المستقيلين من الكتلة الصدرية في 23 حزيران، أصدر المكتب الخاص للسيد مقتدى الصدر بياناً حمل رسائل مهمة توضّح استراتيجيته المقبلة، إذ برأ ايران من "التدخل في الأزمة السياسية الحالية" أولاً، و"تهديده" ثانياً، بينما حمّل "الفصائل السياسية" المرتبطة بها مسؤولية الانتهاكات التي تمارس ضد القضاء العراقي والكتل السياسية الأخرى.

الركن الأول: تطويق الإطار ومساومة إيران

على الرغم من الوضوح البارز في بيانه، إلا أن الصدر وجّه رسالة ضمنية الى ايران مفادها ان الاعتماد على قوى الاطار التنسيقي لن يحمي مصالحها في العراق، لأسباب تتعلق بالتفاعلات الداخلية وخارطة التحول في العلاقات الاقليمية التي يمارس فيها العراق دوراً لمدّ جسور التقارب بين اقطاب اقليمية متعارضة.

فعلى الرغم من تمكّن قوى الاطار التنسيقي من تشكيل الكتلة الأكبر بعد تعويض استقالة النواب الصدريون، إلا ان الضمانات غير متوافرة على تمكنها من تشكيل الحكومة التي يريدها العراقيون، فالعراقيون لا يريدون حكومة فقط، انما هم بحاجة أيضاً الى برنامج حكومي واضح ومعلن يعالج التحديات التي تواجهها البلاد على المستويات السيادية والبيئية والاقتصادية والخدمية، وعلى الرغم من ذلك لم تعلن قوى الاطار عن توجهاتها العامة في ادارة الدولة، كما انهم سيخوضون مفاوضات مشروطة من الكتل السياسية الاخرى، ستنتج – على الأرجح – حكومة ضعيفة غير قادرة على تأدية ما ينتظر منها، مما يعني ان تكاليف الحفاظ على هذه الحكومة أبهض من الحصول عليها.

على المستوى الخارجي ينتظر الحكومة المقبلة التصدي لقضايا في صُلب المصالح العليا للبلاد من أبرزها الأمن الاقليمي، ففي 8 حزيران الجاري أعلن رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي ان "بغداد لم ترع جولات حوار بين الرياض وطهران فقط، انما رعت حوارات لخمس دول بهدف تخفيف التوتر الاقليمي"، كما تتصدر قضية المياه مع تركيا وايران أولويات المصلحة الوطنية، حيث ذكر وزير الموارد المائية العراقي على قناتي العربية والحدث في 23 حزيران "ان العراق بدأ بتدويل ملف المياه مع ايران"، ومن شأن حكومة توافقية غير منسجمة الأطراف أن تشهد تقاطعات في التصورات المتعلقة بالسياستين الداخلية والخارجية على حدٍ سواء، وتكون غير قادرة على ممارسة الدور المنتظر للعراق.

وفي ظل هكذا اجواء يأتي انسحاب الصدر بالكامل من مركز صنع القرار العراقي على المستوى الرسمي، ولما يمتلكه من غموض أمام خصومه محلياً واقليمياً؛ تميل المؤشرات الى أن اولى اركان استراتيجيته تتمثل بسحب البساط من حلفاء ايران ووضع الأخيرة أمام اختيار الحفاظ على مصالحها، أو استمرار دعمها لحلفائها في العراق وتحمل التكاليف الباهضة لهذا الخيار على مستوى المصالح القومية لها.

الركن الثاني: الرهان على الشرعية الداخلية والخارجية

نالت انتخابات 10 تشرين الاول 2021 قبولاً داخلياً عالي المستوى ومباركة أممية ودولية، كونها أنتجت مخرجات تختلف عن أربع دورات برلمانية منذ تأسيس النظام الحالي عام 2003، واُجريت بمراقبة الامم المتحدة استناداً الى قرار مجلس الأمن رقم 2576 الذي أسس لخطوات ما بعد الانتخابات وهي إجراء التعديلات الدستورية واصلاح قطاع الأمن.

عُدّت مخرجات الانتخابات فرصة سانحة لإحداث تغييرنسبي يؤسس لمرحلة تقود البلاد للأنتقال الى البناء المؤسسي الذي يرسّخ سيادة القانون وتكافؤ الفرص والإستفادة القصوى من موارد الدولة بما يحقق السيادة الكاملة والمصالح العليا وإصلاح نظام حُكم يوصف أكاديمياً بالكليبتوقراطي.

هذه النتيجة لم تكُن منتظرة على المستوى الشعبي فحسب، إنما على المستوى الرسمي الداخلي والمستويين الاقليمي والدولي، ففي لقاء جمعه بالمبعوثة الأممية جينين هينيس بلاسخارت أصدر مكتب المرجع الأعلى السيد علي السيستاني بياناً في أيلول 2020 شجع العراقيين "على المشاركة بصورة واسعة" في الانتخابات، محذرا من أن "إجراءها من دون توفير الشروط اللازمة لإنجاحها بحيث لا تكون نتائجها مقنعة لمعظم المواطنين، سيؤدي إلى تعميق مشاكل البلد والوصول ـ لا سمح الله ـ إلى وضع يهدد وحدته ومستقبل أبنائه".

وفي بضع مناسبات ذكر رئيس الجمهورية د. برهم صالح ان النظام الحالي بحاجة الى عقد سياسي واجتماعي جديد، وأخذاً بالحسبان موقف الرأي العام الاحتجاجي، يتأكد ان العملية السياسية تفقد بشكلٍ مستمر أركان شرعيتها ما لم يتم وقف الاستنزاف والبدء بإصلاح شامل من داخل النظام؛ عبّر عنه مشروع (تحالف انقاذ وطن)، أما خارجياً فالمخاوف التي تدفع المجتمع الدولي لمساعي الحؤول دون انتقال العراق الى دولة مارقة تهدد الاستقرار الاقليمي مستمرة، وازدادت أهمية هذا الأمر مع آثار الحرب الروسية في اوكرانيا على الأمن الغذائي واسواق الطاقة، واخفاق محاولات احياء خطة العمل الشاملة المشتركة ونجد أفضل تعبير عن هذه المخاوف ما ورد في إحاطة المبعوثة الأممية الى العراق جينين هينيس بلاسخرت في ايار الماضي بقولها "ان السخط الشعبي في العراق قد يخرج عن السيطرة بأي لحظة" وتأكيدها على أن "العراق ليس بحاجة الى حكام مسلحين ينصبون أنفسهم زعماء" وان الوقت قد حان "لتلسيط الضوء على الشعب العراقي بتأمين الخدمات والحد من الفساد ونهب مؤسسات الدولة وتحقيق الاصلاح وتنويع الاقتصاد والحوكمة وانهاء الافلات من العقاب والمساءلة وكبح جماح الجهات المسلحة".

إلا ان ما حصل ان الكتلة الاولى في الانتخابات خرجت بالكامل من العملية السياسية، بأنتظار تشكيل حكومة جديدة بآليات قديمة تنتمي الى ما قبل احتجاجات 2019 على يد كتلة أصبحت هي الأكبر بعد انسحاب الصدر، يرى أعضائها إن أفضل منجزاتهم هو تحرير العراق من تنظيم داعش الإرهابي الذي احتلّ ثلث مساحة البلاد إبّان حكم صقورهم وأن الاداء السياسي لمن كان يمتلك السلطة آنذاك كان أحد أهم أسباب هذا الانهيار الذي كلّف العراق أثمان باهضة مادياً ومعنوياُ بحسب تقرير لجنة تقصي الحقائق البرلمانية.

هذا المُخرج لم يكن ينتظره العراقيون الذين فرضوا عُرفاً على النظام السياسي لم يألفه قبل عام 2019 وهو اقالة الحكومات وإجبار السلطة التشريعية على الاستقالة، ونظراً لنجاح احتجاجات تشرين في تقصير المدة الدستورية للسلطتين التنفيذية والتشريعية في الدورة السابقة، فهذا العُرف أصبح أداة فاعلة للجمهور يمكن توجيهه نحو السلطة في أقصر من المدة السابقة، خصوصاً إن طروحات حل البرلمان اصبحت احدى متبنيات الكتل النيابية في مبادراتها لحل الأزمة السياسية.

أما الحديث بلغة الاطار التنسيقي فقد شكلت متبنياته السابقة احدى أركان أزمة الشرعية التي ستلازم خطواته لتشكيل الحكومة، فإحدى أوجه اعتراضه على مشروع الصدر انه يقصي إحد جناحي المكون الشيعي، فكيف سيتعامل بعد اعتزال الجناح الفائز في الانتخابات؟ لا سيما ان خروج الصدر لم يبقي جناحاً واحداً للاسلام السياسي الشيعي، إنما ولّد أجنحة في ضوء الاختلافات التي قد يشهدها الاطار التنسيقي.

على غرار الخيبة المحلية، ينظر المجتمع الدولي بقلق بالغ الى التطورات السياسية في العراق، والجهود الدولية لأنتقال العراق من مصدر تهديد للأستقرار الاقليمي الى مُعزّز له، على وشك ان تتلاشى على ضوء دخول فصائل سياسية كطرف رئيس في الحكومة المقبلة، ليأتي انسحاب الصدر كأبرز مؤشر يهدّد ما تبقّى من شرعية النظام السياسي، فقوى الاحتجاج بحاجة الى تضامن تيار جماهيري ذا نفوذ وتأثير كبيرين يمدّان تحركاته بزخم وحماية فاعلة، والمجتمع الدولي بات أمام تحدي المصداقية للتعامل مع حكومة مقبلة لم تُشكّل بأدنى مستويات الديمقراطية الناشئة في العراق، وهذا ما يجسّد الركن الثاني من استراتيجية الصدر.

الركن الثالث: تحويل الأزمة السياسية الى أزمة نظام

على الرغم مما يعانيه النظام السياسي من اخلال جسيم في المنجزات، إلا أن أغلب القوى السياسية التقليدية كانت تحرص على منع جهود اصلاحه أو تشخيص مكامن الخلل الجسيم فيه، وتوعز أغلب معاناة العراقيين الى أزمات سياسية مؤقتة ونظريات مؤامرة دولية وأثر الارهاب.

وعلى الرغم من الخسارة الآنية التي تكبدها الصدر بقرار الانسحاب من مجلس النواب وما يمثله من اقرار واضح بالاخفاق في تمرير مشروع (الاغلبية الوطنية)، إلا انه بهذا الانسحاب قد اعترف صراحة إن الهشاشة التي يعانيها العراق لا يمكن الخروج منها إلا بتشخيص حقيقي وهو ان العراق لا يعاني من ازمات سياسية انما أزمة نظام، ويمكن تفسير انسحابه بأنه لا يعني التخلي عن الغاية (مشروع الاصلاح) ولكنه وجد ان الوسيلة غير مناسبة (اصلاح من داخل النظام)، كما أعلن أمام نوابه المستقيلين في لقاءه بهم أنه لن يشترك في أي انتخابات بوجود الفاسدين، وأخذاً في الحسبان ان من يعنيهم الصدر لن يُحرموا من المشاركة في انتخابات قادمة دون تغيير جوهري في النظام السياسي، وأنه لن يترك العمل السياسي لما يمتلكه من جمهور ومشروع، يمكن القول أنه سيعمل – على الارجح – على تمرير مشروعه من ادوات تمس جوهر النظام السياسي عبر الاجهاز على خصومه السياسيين قبل أن "يُجهزوا على ما تبقى من العراق" بحسب وصف بيان مكتبه الخاص، وهذا ما يمكن عده الركن الثالث لأستراتيجية الصدر.

وفقاً لما سبق، وبعد اخفاق مشروع (انقاذ وطن) الذي لا يبدو أنه تحالف انتخابي لتشكيل الحكومة، إنما هو برنامج حكومي لإحداث انقاذ للبلاد، يمكن التنبؤ بالخطوة المقبلة لزعيم التيار الصدري بأنه لن يقدم على أي فعل، إنما سيمارس نوعاً من الرقابة السياسية – الشعبية قد تولّد أفعالاً من خصومه السياسيين المتصدين لصنع القرار تدفع بهم للدخول الى مناطق محرمة داخلياً وخارجياً من قبيل اندفاعهم لإستخدام السلاح وهم في السلطة تسهم في فقدانهم ما تبقى من الشرعية، بما يوفّر للصدر مبررات الإجهاز عليهم بشكّل كامل مستثمراً عامل الوقت، ويبدو ان هذه الاستراتيجية قد أثمرت قبل أن يباشر بها الصدر من خلال إدراك أصدقاءه في الاطار التنسيقي لهذه النتيجة وهو ما دفع تحالف قوى الدولة الى طرح مبادرة سياسية أملاً في استدراك ما يُنتظر.

تاريخ الخبر: 2022-06-26 06:20:08
المصدر: العربية - السعودية
التصنيف: سياسة
مستوى الصحة: 92%
الأهمية: 86%

آخر الأخبار حول العالم

جوشوا: جاهز للمواجهة.. ودوبوا يرد: أنا هنا لأثبت نفسي - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-09-20 00:25:40
مستوى الصحة: 58% الأهمية: 55%

أدب تختتم ورشة عمل ترجمة الكتاب الأول بجدة السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-09-20 00:25:46
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 57%

آمال عريضة بعودة النواخذة لمنصات التتويج السعودية

المصدر: جريدة الوطن - السعودية التصنيف: إقتصاد
تاريخ الخبر: 2024-09-20 00:25:47
مستوى الصحة: 59% الأهمية: 59%

دوري أبطال أوروبا.. ليفركوزن يعود من روتردام بفوز كاسح

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-09-20 00:25:36
مستوى الصحة: 57% الأهمية: 62%

«الشورى»: خالد السيف رئيساً للجنة التجارة والاستثمار - أخبار السعودية

المصدر: صحيفة عكاظ - السعودية التصنيف: مجتمع
تاريخ الخبر: 2024-09-20 00:25:44
مستوى الصحة: 56% الأهمية: 65%

دوري أبطال أوروبا.. ليفركوزن يعود من روتردام بفوز كاسح

المصدر: الأول - المغرب التصنيف: سياسة
تاريخ الخبر: 2024-09-20 00:25:41
مستوى الصحة: 49% الأهمية: 53%

المزيد من الأخبار

مواضيع من موسوعة كشاف

سحابة الكلمات المفتاحية، مما يبحث عنه الزوار في كشاف:

pendik escort
betticket istanbulbahis zbahis
1xbetm.info betticketbet.com trwintr.com trbettr.info betkom
Turbanli Porno lezbiyen porno
deneme bonusu
levant casino levant casino levant casino levant casino levant casino levant casino
bodrum escort
deneme bonusu veren siteler
Bedava bonus casino siteleri ladesbet
deneme bonusu veren siteler
deneme bonusu
deneme bonusu
sex ki sexy
deneme bonusu
kargabet
تحميل تطبيق المنصة العربية