ربما تتمثل إدارة الاستثمار التقني في صندوق استثماري يختار مجموعة من الشركات التقنية ويستثمر فيها، وقد يظن أحدهم أن الاستثمار التقني لا يحدث إلا بالضخ الحكومي لبناء شبكات الاتصالات والبنى التحتية التي تستوعب ذلك، وقد نحصر الأمر على مستوى المنظمة، ونقول إن إدارة الاستثمار التقني تعني شراء وتشغيل حلول تقنية مثل أنظمة تخطيط الموارد، وربما يمتد الأمر إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء وما إلى ذلك، بينما الواقع يقول إن الأمر أكبر من ذلك بكثير.
إدارة الاستثمار التقني مصطلح واسع جدا يشمل في كلياته كل ما سبق إضافة إلى إدارة العمل التقني من مراحله التأسيسية حتى مراحل النضج، وهذا يعني تحديدا إدارة الإمكانات البشرية التي تعد الشرط الأساسي في هذا النوع من الاستثمارات. والمكون البشري اليوم مطلب في كل أنواع الاستثمارات، لكن عندما نتحدث عن الاستثمارات التقنية فالأمر يختلف بعض الشيء. الأعمال الإدارية تحتاج إلى القدرات البشرية المؤهلة، والخدمات الطبية كذلك، والأعمال الصناعية بدون أدنى شك. لكن الاستثمار التقني لا يبنى إلا على المهارات البشرية الخاصة المتجددة والذكية. وهذا النوع من المهارات لا يمكن استيراده بسهولة، ولا يمكن بناؤه بالتعليم فقط، فهو مبني على الممارسة. ولا يمكن الحفاظ عليه وتنميته بسهولة، والمنافسة العالمية عليه شرسة جدا.
إدارة الاستثمار التقني تقوم على وجود شبكة من الأدوات الاستثمارية المتطورة، وهذا يشمل هندسة الوسائل والأدوات الاستثمارية وتعدد طرقها وتنظيمها بالشكل المطلوب، مع حضور مقوماتها من رأس المال والإشراف واللوائح. وتقوم كذلك على نضج وتكامل القطاعات المتخصصة التي تقدر قيمة الاستثمار التقني وتعرف أهمية تعاظم القيمة الذي يحدث حين يتم توقيت الاستثمارات التقنية والعمل بها. وتقوم أساسا على وجود أعمال وتجارب منظمة تنقل الإبداعات والتقنيات إلى تطبيقات وممارسات واسعة النطاق والتطبيق، وهذا يعني تأسيس الأعمال ventures القائمة على الابتكار وتنميتها. وكل هذه الدورات المتداخلة تقوم على وجود جيش من المؤهلين الذين يحصلون على التأسيس التأهيلي اللازم، ويجدون البيئة المناسبة للتعلم والتدرب، ثم يندمجون في فرق العمل والوحدات المنتجة القابلة للتطور.
إدارة القدرات البشرية التقنية في مرحلة مبكرة "التعليم والتأهيل" ثم نسيانهم في المراحل اللاحقة يجعل معظمهم ينضم إلى قافلة المهاجرين من التخصص والممارسة، تماما مثل الأطباء الذين يصبحون مديرين ينفذون الأعمال الإدارية. وعلى الرغم من أن قرار الفني أو المبرمج الذي يتحول إلى مدير بعد بضعة أعوام ليس قرارا خاطئا بالضرورة، إلا أن الخطر هنا في عدد الذين يقومون بهذا التحول المهني نسبة إلى من يرسخ ويقاوم في مسار الممارسة المتخصصة. ومشكلة هذا المجال أن النقص الشديد والمفاجئ لأي نوع من المهارات المتخصصة غير قابل للاستيراد بسهولة. على الرغم من نمو ممارسات العمل عن بعد وزيادة أعداد الفرق التي تعمل من قارات مختلفة إلا أن المنافسة العالمية على هؤلاء الممارسين شديدة، وهناك دائما طلب متنام ومتجدد في قطاعات جديدة، والمنافسة الدولية لتعزيز التقدم في الاستثمار التقني تعني وجوب عمل المناجم المحلية لهذا النوع من المهارات بأعلى مستوى.
ولهذا، من الضرورة أن نكون أكثر انفتاحية في التعامل مع هذا المكون الأهم لإدارة الاستثمار التقني باقتدار، وهذا يعني تطوير الأنظمة واللوائح التي تسمح أكثر مما تحدد وتمنع، مع تحسين الأسباب التي تستبقي هذه المهارات في المنطقة، وتعزز بيئة تبادل المهارات والمعرفة. التدريب والممارسة شرطان أساسيان لاستمرار تطور هذه المهارات وبناء قمة الهرم التي تقود وتوجه قواعده. وأقصد هنا بقمة الهرم الممارسين الفنيين أصحاب الخبرة مثل الـsenior technical engineers. وجود قاعدة كبيرة من المبرمجين الصغار مبشر، لكن عدم اكتمال منظومة الفرق يكسر دورة التعلم والممارسة ويجعل العنصر الأهم في معادلة الاستثمار التقني ناقصا. بل قد يجعل كل جهود الاستثمارات التقنية تعمل كقناة إقليمية تفتقر إلى الديمومة، لأننا لا نملك ما يكفي من زخم هذه العناصر، الأهم أن تتحول هذه القناة إلى مستودع للمهارة والقيمة وهذا ــ بالجهود المتنوعة الأخيرة ــ ليس بعيدا، بإذن الله.
* نقلا عن صحيفة "الاقتصادية".
